الحق والشرف والأباء والمروءة، وأن أمام الفساق والأذلاء والأدنياء طرقاً شتى من التلصص والكذب والتزوير والخداع والنفاق والملق والذلة والشره والظلم والقسوة والأثرة وهلمّ جرّا. وحق كذلك أن من الأحرار من يخفق في عمله حين يُلزم نفسه هذه الطريق الواحدة، ويقسرها على هذه المحجة الواضحة، وأن من العبيد عبيدِ المطامع والأهواء، ومرضى النفوس والأخلاق، من يظفرون في هذه السبل بما يريدون، ويبلغون الغاية التي يقصدون. ولست أجحد كذلك أن الجماعة قد تعتلّ فيكثر فيها المبطلون الظافرون، والمحقّون المحرومون. كل هذا يا أخي حق، ولكن استمع:
كثيراً ما يحرم الحر الصالح لعزوفه عن معترك المطامع وصدوفه عن الاتجار في أسواق الحياة، وتنكّبه السبل التي جعلتها سُنن الجماعة وسائل إلى الجاه والثروة. فليس إخفاق هؤلاء بأخلاقهم، ولكن بكبريائهم وتقصيرهم في اخذ الأهبة وإعداد العدة، على حين يتأهب الأشرار، ويجدّ الفجّار. فلا جرم يخفق أولئك ويُنجح هؤلاء، فإن للحياة قوانين وللمعايش سُنناً. والقرآن الكريم يقول:(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يُبخسون.) ويقول: (كلاًّ نمد: هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظوراً.) ولكن إذا أخذ الرجل أهبته للعراك في الحياة وتسلّح بالخلق الطيب فلن يكون هذا الخلق سبباً إلى إخفاقه وسبيلاً إلى خيبته أبدا. ربما تعتلّ الجماعة فينتصر المبطل ويخذّل المحقّ، ويفتتن بهذا كثير من الناس، ولكن هذا لا يكن ديدنا. ثم علة الجماعة لا تدوم؛ وليست الجماعات كلها عليلة. وما تزال الجماعات منذ ألّفها الله وعلّمها وبعث فيها الهداة المرشدين، ووضع لها السنن أيْداً لأنصار الحق وعوناً لأهل الفضيلة، وخذلاناً لجند الباطل والرذيلة. مازال الصانع الذي يتقن صنعته، ويحسن معاملته ويصدق وعده، أنجح عملاً وأكثر مالاً من الصانع الكذاب سيئ المعاملة. ومازال التاجر الصادق في قوله، الأمين في فعله، الذي يقلّب تجارته على شرائع من الصدق والأمانة والقناعة والإخلاص، ولا يلبس على الناس الجيد بالرديء، والغالي بالرخيص - مازال هذا التاجر أربح متجراً واملأ يداً وأحظى برضا الناس وإقبالهم من التاجر الكاذب الغاشّ الشره المخادع. أترى في هذا ريباً؟ إن كنت في ريب فابحث كما تشاء واسأل من تشاء. ولا يزال المزارع الذي يزرع الأرض فلا يتزيد فيما أنفق عليها، ولا يسرق من زرعها، بل يصدُق مالك الأرض