للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فيما أنفق وما جنى؛ ومستأجر الأرض أو الدار الذي يشق على نفسه ليؤدي الأجرة في حينها؛ لا يزال هذا وذاك أحب إلى المالكين وأظفر بما يريد

ولا يزال الرجل الصادق الأمين في كل جماعة وفي كل طائفة موضع المودة والثقة. ينال بسيرته ما تقصر عنه ثروته؛ إن استقرض أُقْرض، وإن استعار أعير. له من ثقة الناس رأس مال لا ينال منه الخسار، وتجارة لا يدركها البوار. ربما يتَّجر في ألف وليس عنده إلا مائة، ويزرع عشرة فدادين وليس بيده إلا أجرة فدان واحد؛ ويستخدم في المتاجر والمصانع دون كفيل أو ضمين. سل يا أخي الناس في كل قبيلة، وطالع التاريخ في كل جيل

على أن الأمم في هذا مختلفات، والتاريخ درجات: أمة تسدّ الطريق على كل فاجر مخادع كذاب، وتؤثر بمالها وكرامتها كل برْ أمين صادق؛ وأمة يجد المخادعون فيها طريقاً ولكنها وعرة، ومذهباً ولكنه ضيق، ورواجاً ولكنه قليل؛ وأخرى تتسع فيها مجال الأشرار، وتروج فيها سوق الفجّار. ولكن لا تبلغ أمة من الفساد أن تسن في الرذائل سُنَناً، وتشرع في المخازي شِرَعاً تجعل الأشرار المخادعين فائزين حيثما ساروا، وتردّ الأبرار الصادقين خائبين أين توجهوا. مهما تشتد العلة فالخيبة أكثرها للأولين، والنجح أكثره للآخرين. فإذا أرادت تجعل الفساد سّنة فموتها دون الغاية، وزوالها قبل نهاية الطريق

أحسب يا أخي أن الذي لبس عليك الأمر لبساً، وملأ عليك العالم حزناً، وملأك على العالم سخطاً، أنك نظرت أول ما نظرت إلى دواوين الحكومة فرأيت جماعة من خفاف الأحلام صغار النفوس شالت كفتهم فارتفعوا، وآخرين من راجحي العقول كبار النفوس ثقلت موازينهم فنزلوا؛ فلما امتلأت نفسك أسفاً وأملك في الناس خيبة، نظرت إلى أنحاء الأمة ساخطاً متشائماً، فنفضت عليها هذا السواد، ونفثت عليها هذه الغضبة، واتهمتها بهذه التهمة

إن دواوين الحكومة أقرب المواضع إلى ما زعمت، وأكثرها تعرضاً لما وصفت. ذلك بأن الرزق فيها لا يُنال بالسعي والكد، والجهد والدأَب، والاحتكام إلى سنن الاجتماع وقوانين الطبيعة؛ ولكن الرزق فيها يُقسم بأيد قليلة، ويصرّف بآراء معدودة، فإذا فالت هذه الآراء، وطاشت هذه الأيدي، وقع الفساد، ثم شاع وعمّ حتى يبلغ أمده. وكثيراً ما تفيل الآراء وتطيش الأيدي بأهواء السياسة ومنازع التحزب؛ على أن هذا مهما كثر لا يبلغ أن يكون

<<  <  ج:
ص:  >  >>