التي أنشأها العرب، وكل هؤلاء الفاتحين قد اعتنقوا ديانتهم، وقبسوا منهم فنونهم، وأخذ جلهم لغتهم، وإن شريعة هذا الرسول - وإن تزعزعت في بعض مواطن - لشريعة يشبه أنها قامت لتكون ثابتة إلى الأبد. ففي الهند قد جرفت في طريقها ديانات بلغت من الكبر عتياً، وحولت مصر القديمة الفرعونية بأسرها إلى مصر العربية، وهي البلد الذي لم يؤثر فيه الفرس واليونان والرومان إلا قليلاً! والشعوب الهندية والفارسية والمصرية والأفريقية كان لها معلمون وهداة غير خلفاء محمد، ولكنهم منذ اعتنقوا شريعة هؤلاء الخلفاء ثبتوا عليها ولم يستبدلوا بها ديناً
حقاً إنها لمعجزة في التاريخ، معجزة هذا المأخوذ الرائع الذي أخضع صوته هذا الشعب الجموح الذي أعجز الفاتحين نضاله لاسم تزلزلت منه أقوى المماليك، وهو اليوم تحت أطواء لحده يخضع ملايين الناس لشريعته
إن العلم الحديث ينعت هؤلاء العظماء، ومؤسسي الديانات بالمأخوذين وللعلم الحق في هذه النظرة إذا توخينا محض الحقيقة ولكن يجب احترام هؤلاء. لأن روح جيل ما، وعبقرية شعب ما مرتبطان بهم، وسلالات كثيرة ضائعة في ظلام العصور إنما تتكلم بألسنتهم. إن هؤلاء المبدعين للمثل العليا لا ينشئون في الحقيقة إلا أخيلة، ولكن هذه الأخيلة المشكوك فيها هي التي أبدعتنا على هذا التقويم. وبدون هذه الأخيلة لم تستطع أية حضارة أن تحيا! وليس التاريخ إلا قصة الحوادث المتممة يقوم بها الإنسان ليخلق مثلا أعلى يعبده أو يجربه!
والحضارة العربية أنشأها شعب فيه ما فيه من ريح البربرية، خرج من ظلمات الصحراء العربية واقتحم معاقل الفرس واليونان وحصون الرومان وألف مملكة واسعة تمتد حدودها من الهند حتى الأندلس وأبدع هذه الآثار الرائعة التي تثير في روع كل ناظر عوامل العجب
فأي خالقين عملوا على إنشاء هذه الحضارة وهذه المملكة في بدء نشأتها؟ وما كانت علة هذه الرفعة وعلة هذا الانحطاط؟ إن العلل التي تمرس بها المؤرخون جاءت في الحقيقة ضعيفة واهية، وإن مذهباً من مذاهب التعليل لا يمكن امتحانه امتحاناً حسناً إلا إذا جرى تطبيقه على شعب كهذا الشعب