قد ولد الغرب من الشرق، وفي الشرق يجب أن نطلع على مفتاح الحوادث الماضية، إذ على سطح هذه الأرض العجيبة تهيأت الفنون واللغات وأكثر ديانات البشر. ورجالها اليوم ليسوا كرجال الأمس، لقد تبدلت الأفكار غير الأفكار والعواطف غير العواطف، والأطوار تمشي فاترة بطيئة بحيث إذا أقبل عليها الدارس استطاع أن يقف على سلسلة تلك الأعمار المطوية! فالفنانون والعلماء والشعراء يتكررون دائماً. . . كم مرة جلست إلى ظل نخلة أو فيء جدار أحد الهياكل مستسلماً إلى أخيلة طويلة تنتابني مفعمة بأخيلة ذلك الماضي المتواري، أتنهد تنهداً خفيفاً، وفي الأعماق الشاعة تتعالى مدن غريبة تتوهج قصورها وأعمدتها ومناراتها تحت سماء ذهبية. وتجوز قوافل البدو والجماعات الآسيوية ذات الألوان البراقة، وطوائف العبيد ذات الجلود البرونزية والنساء المحجبات! لقد اندثرت اليوم أكثر هذه المدن القديمة. (نينوى ودمشق والقدس وأثينا وغرناطة وممفيس وطيبة ذات المئة باب) قصور آسيا وهياكل مصر عفاها القدم وآلهة بابل وسوريا والكلدان وشواطئ النيل لم يبق منهم إلا ذكريات، ولكن كم من أشياء مستورة في هذه الخرائب! وكم من أسرار مبثوثة يجدر سؤال هذه الذراري عنها! من أعمدة (هركول) إلى سهول آسيا الخصبة القديمة، ومن شواطئ بحر (ايجه) الأخضر إلى رمال الحبشة المحرقة
يُحمل كثير من التعاليم والعقائد من هذه الأقطار الشاسعة ويضيع فيها أيضاً كثير من المعتقدات، ودرسها يرينا كم عمق هذه الهوى التي تفصل بين الناس، وإلى أي مدى يذهب وهم أفكارنا في الحضارة الإنسانية، والإخاء الإنساني، ويبدي لنا الحقائق والمذاهب التي يخال أنها مجردة مطلقة كيف تتبدل في الحقيقة من بلد إلى بلد
هنالك أسئلة كثيرة تعرض للمتأمل في تاريخ العرب، وأكثر من درس نحفظه، فإن هذا الشعب هو خير شعب حرر ذراري الشرق على اختلافها من ذراري الغرب. إن أوروبا لا تعرف عن هذا الشعب إلا قليلا، وإنما يجب عليها أن تعمل على معرفته لأن الساعة دانية حيث ترتبط مقدراتها وحظوظها بمقدراتهم وحظوظهم!
إن الخلاف بين الشرق والغرب اليوم عظيم حتى لا يرجى أن يقبل أحدهما تفكير الآخر، ومجتمعاتنا القديمة تتحمل تطورات عميقة، فمراحل العلم السريعة والصناعة قلبت قواعدنا الطبيعية والأخلاقية، والنزاع الحاد في جسم المجتمع، والألم الشامل الذي يدفعنا دائماً إلى