للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وذِلة المحب المفتون يستجدي فاتنته بعض العطف والرحمة والحنان

وانتهى من كتابة (رسائل الأحزان) في مساء ١٧ من فبراير سنة ١٩٢٤

يخاطب الرافعي نفسه في (رسائل الأحزان) على أسلوب (التجريد)، فهو يزعم أنها رسائل صديق بعث بها إليه، فتراه يوجِّه الخطاب فيها إلى ذلك الصديق المجهول يستعينه على السلوان بالبث والشكوى؛ ثم يصطنع على لسان ذلك الصديق نتفاً من الرسائل يدير عليها أسلوباً من الحديث في رسائله هو، وما هناك صديق ولا رسائل، إلا الرافعي ورسائله، يتحدث بها إلى نفسه عن حكاية حبه وآماله وما صار إليه

أو قل: إن الرافعي في هذه الرسائل جعل شيئاً مكان شيء، فأنشأ هذه الرسائل إلى صاحبته ثم نشرها كتاباً تقرؤه لتعلم من حاله ما لم تكن تعلمه، أو ما يظن أنها لم تكن تعلمه؛ فهي رسائله إليه على أسلوب من كبرياء الحب، تشفي ذات نفسه ولا تنال من كبريائه

وفي بعض حالات الحب حين تقف كبرياء العاشق بينه وبين ما يريد إعلانه، وتقف النفس وقفتها الأليمة بين نداء القلب وكبرياء الخُلق، يتمنى العاشق لو كان له ملءُ الفضاء ليهبه إلى من يحمل عنه رسالة إلى حبيبته من غير أن يعترف بأنه رسول. . .! وتكون أبلغ الرسائل عنده أن يكتب إلى حبيبته: (إنه يحبك) يعني: (أنا أحبك!) ويتحدث إليها عن نفسه بضمير الغائب وهو من مجلسها على مرأى ومسمع، ومن لفتات قلبها وقلبه على مشهد قريب. . .!

وبهذا الأسلوب تحدث الرافعي عن نفسه بضمير الغائب في رسائل الأحزان

(أنا. . .) هذا الضمير الذي لا يتحدث به متحدث إلا سمعتَ في نْبره معنى شموخ الأنف، وصَعَر الخد، وكبرياء الخُلق؛ لا يؤدي في لغة الحب إلا معنى من التذلل والشكوى والضراعة، فما تسمعه من العاشق المفتون إلا في معنى اليد الممدودة للاستجداء، وما تقرأ ترجمته في أبلغ عبارة وأرفع بيان وأكبر كبرياء إلا في معنى: (أنا محروم. . .!)

يا عجباً للحب! كل شيء فيه يحول عن حقيقته حتى ألفاظ اللغة وأساليب الكلام. . .!

وكذلك كان الرافعي يقول في رسائل الأحزان: (هو) ويعني: (أنا. . .) لأنه لا يريد أن يبتذل كبرياءه في لغة الحب. . .

إنني أحسب الرافعي لم يكتب رسائل الأحزان لتكون كتاباً يقرؤه الناس، ولكن لتقرأه هي،

<<  <  ج:
ص:  >  >>