اقتحم الغزاة الفرنسيون بلادنا فرأى مواطننا العظيم أن أمراء المماليك لا يعنون بغير إخفاء أموالهم ثم الذهاب إلى الحرب ليبادروا بالهروب لدى الصدمة الأولى، فأهاب بالشعب أن يشمر للذود عن حياضه. وهنا أترك الكلمة للمؤرخ الجليل الأستاذ محمد فريد أبو حديد مؤلف (سيرة عمر مكرم). قال في الصفحة الحادية والخمسين:
(وكان جواب الشعب باهراً نبيلاً، إذ لبى جميعه نداء الواجب فخرج كل من في القاهرة وضواحيها من الرجال والشبان حتى لم يبق أحد إلا الضعفاء والنساء، وجاد كل منهم بما عنده من مال قليل دراهم اقتطعها الفقراء من أقواتهم وأقوات عيالهم وجادوا بها ليشتروا سلاحاً وخياماً وذخيرة. . .)
فلما هزمت المماليك في موقعة امبابة، وقرر شيوخ القاهرة أن يعلنوا التسليم للقائد الفرنسي، أنف السيد عمر مكرم أن يعود إلى القاهرة إلا إذا كانت عودته على جهاد، رغم أنه يعلم أن اسمه في طليعة الأسماء التي اختار القائد أصحابها ليحكموا البلاد بجانب الفرنسيين. وأنت تقرأ تعليق المؤلف على هذا الموقف الكريم على الصفحة ٥٦ وما بعدها:
(ولو كان نظره إلى نفسه ومصلحتها لآثر العودة كما عاد السادات والشرقاوي، على أن يكون أحد زعماء العهد الجديد، فلا يتحمل التشريد والنفي والحرمان والفقر ومعاناة الأهوال والشدائد؛ ولكنه لم يكن ينظر إلى نفسه وما تتجشمه من الأخطار وما تتكبده من المشقة، بل كان ينظر إلى بلاد شهد أول تحركها نحو التحرر، وذكر حقها في الحياة الحرة المستقلة فلم يجد له وسيلة إلا أن يضحي بنفسه راضياً في سبيل الجهاد، مهما يكلفه ذلك من عناء. . .
(مع أن مراداً وإبراهيم ومن معهما من الأمراء لو استطاعوا أن يعودوا إلى الحكم بالاتفاق مع الفرنسيين لما ترددوا في ذلك لحظة، فلم تكن بأحدهم رغبة في الجهاد لنجاة البلاد من حكم الأجنبي، أو للمحافظة على حياتها وحريتها، بل كان كل ما يرمون إليه أن يسترجعوا السيادة، ويعودوا إلى سيرة طغيانهم وعسفهم؛ ولو وجدوا من الفرنسيين ميلاً إلى الاتفاق على أن يعودوا إلى الحكم تحت علمهم وحمايتهم لما ترددوا في ذلك. .)
ولاشك أن تأنق المؤلف في عرض موقف المماليك وبراعته في المقارنة بين الوطنية الحقيقية والمنفعة الشخصية، قد أعاد إلى ذاكرة القارئ عشرات المواقف في تاريخنا السياسي الحديث، منذ سنة ١٩١٩ إلى الآن، حيث كان قادة الأمة الأمناء يضربون عن