بعد؛ على أني لم أذمم من الإنكليزي الشيخ صحبة، وكنت ألقاه حيناً فحيناً فنتحدث ونتفكه، وكنت أجده جالساً وبجانبه عدة السفر من البيبة والسجائر والكتب. ولست أنسى رثائي له حينما أضل منظاره فاضطرب حيناً يبحث عنه، ثم جلس كئيباً يقول: أني لا أستطيع القراءة بدونه، وكيف أقطع الطريق إلى لندرة بغير قراءة؟ إنه منظار ثمين، إنه يلائم عينيّ؛ ثم يهيج فيتهم خادم القطار بالسرقة؛ وييأس، فأعيد الأمل في نفسه، فيعود يبحث عنها وأبحث معه. وجاء الخادم يقول: لعلها في حقيبتك. ففتح الحقيبة مغضباً وأخرج ما فيها من ورق وقال للخادم بالإنكليزية - وهو عالم أنه لا يعرف منها كلمة -: أنظر! أنجدها هنا؟ أأنت على يقين أنها ليست هنا؟ أمطمئن أنت إلى أنها ليست هنا؟ ثم رجعت إليه بعد حين فإذا هو متهلل الوجه مسرور، فلما رآني وثب يريني كيف أنزلق منظاره وراء الباب وكيف وجده، فشاركته السرور وأعدنا الحديث عنه ضاحكين بعد أن أطلنا الحديث عنه آسفين. . .
وبعد ساعتين من حلب دخلنا إقليماً جبلياً مشجراً تخلل القطار فيه أنفاقاً كثيرة متعاقبة على سفوح الجبال حتى بلغنا ميدان أقبس على الحدود بين سورية وتركية، والساعة تسع وخمسون دقيقة، فوقف القطار زهاء نصف ساعة. وجاء موظف تركي فسأل: من أين؟ قلت: من مصر. قال: إلى أين؟ قلت: استانبول. قال: أمعك أشياء للجمرك؟ قلت: لا. قال: كم معك من النقود التركية؟ قلت: قليل لا يتجاوز كذا. قال: مع السلامة.
وبلغنا، والساعة ثلاث ونصف، محطة أسمها مصيص. قلت لنفسي: هذه ولا ريب المصيصة التي كانت ثغراً بين البلاد الإسلامية وبلاد الروم زمناً طويلاً. هنا نهر جيحان، وهنا مغازي سيف الدولة؛ وفي هذا الإقليم وما يجاوره نظم المتنبي ما نظم من قصائده. أليس يقول أبو الطيب لسيف الدولة:
سريت إلى جيحان من أرض آمد ... ثلاثاً لقد أدناك ركض وأبعدا
ومن قبل قال عديّ بن الرقاع العاملي:
فقلت لها كيف اهتديت ودوننا ... دُلوك وأشراف الجبال القواهر