وسرنا بعد المصيصة ثلاثين كيلا شطر الغرب فاتسع السهل وانتشرت الخضراء ووافينا أطنة والساعة أربع. ندع حديث أطنة وما يليها إلى العودة، ونسير إلى الشمال زهاء ساعة فنوافي جبال طوروس، وما أعظمها منظراً جميلاً رائعاً هائلاً: سفوح مخضرة يصعّد فيها الطرف حتى يبلغ قمماً شاهقة تكاد العين تقصر دونها، قمم متنافسة متسامية إذا صعد البصر إلى إحداها انزلق على السفح ليرقى في سفح آخر إلى قمة أخرى، وإذا أسفَّ النظر إلى الحضيض فهناك الأودية العميقة السحيقة يهول الناظر عمقها ويروقه بين الحين والحين مياه تجري مسرعة مزبدة متعرجة كأنها الأراقم راعها القطار فانسابت إلى مجاحرها. وتتوالى مرائي طوروس في جمالها وجلالها واختلاف ألوانها وارتفاعها واستقالها وما يشغل العين والفكر من صورها، والقطار على السفح موف على هذه الأودية الهائلة يصعد متمهلاً وينبهر أحياناً فيقف زاحراً زافراً لا يقوى على المرتقى. فإذا أعد العدة من مائه وناره وبخاره عزم فصعد جاهداً مجهوداً. وبعد نصف ساعة على هذه السفوح تعاقبت أنفاق لبث القطار فيها نحو عشرين دقيقة كلما بشرّ الضوء بانتهاء أحدها أقبل الآخر في ظلامه يلتهم القطار.
ومن بدائع الجناس أو المقابلة في هذا الجمال البديع أذواد من الإبل في أودية طوروس، لم تذهب بجمالها وروائها مناظر الجبال العظيمة؛ وأما سرب المعزى الذي رأيته هناك فلا أدري من أي أنواع البديع مرآه هناك.
وتوالت ذِكَرُ الآل والأصحاب فإذا لساني يترنم بهذه الأبيات:
ذكرتك إذ طوروس في اللُّوح مُصعِد ... يظلّ بأهداب السحاب يُعمَّم
يطير بيَ الإعجاب بين سفوحه ... وقماته والقلب فيه مقسَّم
ويفزع من وديانه كل ناظر ... ويحتار فيه الطرف كيف ييّمم
جمال ترود العين بين رياضه ... عليه جلال بالمهابة مفعم