للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وجاهها، تثخنه اليوم باسم الدين والتوحيد أسنة المشركين في أُحد جراحاً ما زالت تثعب دماً، وتمزق إهابه نبال الفرس في القادسية وقسي الروم في اليرموك، فيستقبلها بصدر عامر بالإيمان، ويستمرئ آلامها غير جزع ولا هياب، ذلك لان معجزة الإسلام أخرجت نفسه من حدود هذا العالم المادي الضيق الذي يتعين بجهات الأرض الأربع، إلى عالم روحي فسيح يتعين بعقيدة التوحيد، وبحدودها الأربعة: التي هي: التقوى في الدين، والحرية، والإخاء، والمساواة في الدنيا.

ولئن كان فتى الجزيرة قبل الإسلام راعي ابل وغنم، تختلف عنقه بين نيري الفرس والروم وتصعر خده أيدي الغزاة الطامعين من بقية الشعوب، فأنه اليوم بفضل المعجزة الكبرى التي تزحزح لإشراقها أس الإيوان، وانصهر من حرارتها التاج والصولجان، قد فتح ثلثي الكرة الأرضية في اقل من ثلثي قرن. فهذا خالد بن الوليد الذي لم ينهزم قط في حياته يفتح دمشق وهذا عمرو بن العاص يوغل في الديار المصرية، وهذا طارق بن زياد يعبر المضيق الذي لا يزال يحمل اسمه حتى اليوم، يريد أن ينفذ من الشطوط الإسبانية إلى سفوح جبال البرينية ثم إلى غسقونيا وبوردو. وهذا موسى بن نصير يسرح بخيول مضر وعدنان في شرق الأندلس وغربها؛ في قرطبة وطليطلة، وأشبيلة، وقادس، وغرناطة، وغيرها

ثم انظر إلى هذا الفتى الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من العمر بعد، كيف اخترق السند وظل ممعنا بفتوحاته، حتى ادخل الهند ضمن الإمبراطورية الإسلامية. أليس بفضل معجزات الإسلام يربط هذا الفتى (تورس) غرب باريس ببحر الهند على ما بينها من الشقة الواسعة والمسافة النائية؟

أفلا يعد معجزة في الإسلام أن يضاهي عصر المأمون في بغداد عصر بركليس في اثينة، وعصر الناصر في الأندلس عصر أغسطس في رومية؟ ونحن الذين كنا بالأمس نرعى الإبل والشاء ونأكل الضباب والعظاة.

انظر إلى ما يقوله فينا (غوستاف لوبون) في كتابه (زعم المؤرخون أن التأثيرات العلمية والأخلاقية العجيبة التي أثرها المسلمون في العالم كان بفضل مادياتهم، ولكن لا يصح اليوم أن نجهل أن هذه المؤثرات قد دامت في مجراها حتى بعد أن أضاع المسلمون

<<  <  ج:
ص:  >  >>