للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولكن الساعة قاربت التاسعة في يوم العيد، ومازال البيت ساكتاً على خلاف عادته، فقلقت عليهم ونهضت، ودخلت غرفهم واحدة واحدة، ونظرت في وجوههم وجسست نبضهم لأطمئن، وأردت أن أستوثق وأن أنفي كل شك في أنهم مازالوا أحياء وبخير وعافية، فوضعت أذني على صدورهم - أعني قلوبهم - لأسمع دقاتها، ولم يكفني هذا، فقد كانت بقية من الشك تختلج في صدري، فما رأيتهم يتحركون، فرحت أقرص هذا وأشد أذن ذاك لأرى هل يحسون أو لا يحسون، فقاموا جميعاً فزعين يصيحون ويحتجون، فلما سكنت الضجة قليلاً قلت لهم: (ما هذا النوم؟ قوموا يرحمكم الله وتعالوا هنئوني)

فمشوا ورائي وحفوا بي حيث جلست، وأقبلوا عليّ يسألونني؛ وتعلق بي الولدان اللعينان فرحين، ووقف الباقون ينتظرون أن أفضي إليهم بالسر، فأغرقت في الضحك ثم قلت وأنا أنهض:

(أليس في البيت شيء يؤكل؟ إني أتضور جوعاً)

فقالت الزوجة الصالحة: (شيء يؤكل؟ هل تعني أنك أزعجتنا جميعاً على هذه الصورة الفاضحة، لا لسبب سوى أنك تريد أن تأكل؟)

فقلت: (اسمعي يا امرأة. . . لا تجدفي. . . إن الطعام شيء مقدس. . . لا تذكريه إلا بلهجة الاحترام والتوقير. . . فما خلقنا إلا لنأكل. . . على الأقل هذا ما يبدو لي أنا. . . لا تقاطعي من فضلك. . . أنت تظنين أنك خلقت لتنامي. . . ولكنك مخطئة. . أوه جداً. . . الأكل أحلى، وأوفق، وأليق بالحي. . . أما النوم؟ ما الفرق بالله بين الميت والنائم؟)

فقاطعتني وقالت: (يعني ضحكت علينا وأجريتنا وراءك بعد أن أوهمتنا أن هناك داعياً للتهنئة. . .؟)

قلت: (كلا. . . لم أضحك على أحد. . . أليس اليوم يوم عيد؟ تعالوا إذن قبلوا يدي بأدب، وهنئوني، وادعوا لي بالسعادة وطول العمر. . . مالكم؟)

ولم أسمع جواب السؤال، ولم أعد أعنى بأن أسمعه، فقد شغلت عنه بالنار التي اندلعت في بدني، من القرص الذي انهال به عليّ الكبار والصغار، حتى خيّل إليّ أني في خلية من خلايا النحل، لا في بيت يسكنه آدميون. . .

وقلت وأنا أنظر إلى وجهي في المرآة: (ليتكم تفعلون بي هذا كل صباح. . لقد صار وجهي

<<  <  ج:
ص:  >  >>