وكانت مصر تضطرب من أقصاها إلى أقصاها؛ فأبدت شجرة الدر في هذه الآونة العصيبة ثباتاً مدهشاً، واستطاعت بعزمها وبراعتها أن تسير الشئون، وأن تشرف على أحوال الدفاع؛ ثم توفي الملك الصالح بعد ذلك بأشهر قلائل، فأخفت شجرة الدر نبأ وفاته، حتى استقدم ولده ثوران شاه من الشام، ولبثت مدى حين تخرج الأوامر والمناشير ممهورة بالعلامة السلطانية. ولما وصل ثوران شاه إلى مصر وتقلد الملك باسم الملك المعظم، أساء السيرة، واختلف مع شجرة الدر ومع مماليك أبيه، فأتمروا به وقتلوه لنحو شهرين فقط من ولايته، واتفقوا على تولية شجرة الدر، فتبوأت عرش مصر في عاشر صفر سنة ٦٤٨هـ
وكانت ولاية شجرة الدر حادثاً فريداً في التاريخ الإسلامي، فلم تجلس امرأة قط من قبلها أو بعدها على عرش مملكة مسلمة مستقلة؛ وكان للحادث وقع عميق في العالم الإسلامي حتى قيل إن الخليفة المعتصم بالله العباسي نعى على مصر أن تجلس على عرشها امرأة، ونعاه بعض فقهاء العصر. وشعر المماليك الذين ولوها بهذا الشذوذ، فعينوا إلى جانبها أميراً منهم هو عز الدين أيبك التركماني ليكون مقدماً للعسكر ومشرفاً على الشئون. ودعى لشجرة الدر على المنابر، ونعتت في الخطبة (بالجهة الصالحية ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية، صاحبة السلطان الملك الصالح) وكانت علامتها على الأوامر والمراسيم: (والدة خليل). وتولت شجرة الدر الأمور بحزم، وكان الجيش المصري قد استطاع في تلك الأثناء أن يقف زحف الصليبيين وأن يسحقهم في موقعة المنصورة الشهيرة (المحرم سنة ٦٤٨)؛ وأُسر لويس التاسع وعدد كبير من أُمرائه، وبدأت مفاوضات الصلح بين الفريقين، فأشرفت شجرة الدر على هذه المفاوضات، وانتهت بانسحاب الفرنج من الأراضي المصرية والإفراج عن ملكهم لقاء فدية كبيرة؛ وأبدت شجرة الدر في ذلك كله براعة ومقدرة تخلق بأعظم الرجال
على أن شجرة الدر كانت تشعر بضعفها كامرأة فرأت أن تتزوج من عز الدين أيبك، فتقوي بذلك مركزها كملكة، وتدعم عصمتها كامرأة. ولما شعرت أن هذا الزواج لم يحقق كل شيء، ورأت أن جلوسها على العرش قد أثار الفتنة في الشام ويخشى أن يثيرها في مصر، نزلت عن العرش لزوجها، وجلس أيبك مكانها على عرش مصر باتفاق المماليك البحرية باسم الملك المعز، وذلك في آخر ربيع الآخر، وبذلك لم يطل ملك شجرة الدر أكثر