دخل بيير فيلليه مدرسة المعلمين العليا في سنة ١٩٠٠، وكنت حينئذ معلما فيها. كان قبل ذلك تلميذا ينشأ في معهد العميان الأهلي، ثم اختلف إلى غير مدرسة من المدارس الثانوية في باريس. ثم أقتحم المسابقة لدخول مدرستنا على نفس القواعد والشروط، وفي نفس المواد التي يستبق فيها غيره من المبصرين، لا يميزه منهم إلا أنه كان يستعين بغلام أقل منه ثقافة وعلما، فكان هذا الغلام يبحث له في المعاجم، ويكتب ما يملي عليه. فنجح نجاحا حسنا. ونستطيع أن نتصور ما أدركنا نحن الأساتذة من القلق، وما أدرك رئيسنا الطيب القلب جورج بيرو. كنا نتساءل ماذا نصنع بهذا الغلام الحدث الذي كان يحسن فنون البيان في أكبر الظن، ولكنه كان ضئيلا نحيلا ضريرا. إلى أي نحو من أنحاء العلم نوجهه؟ والى أي غاية نسيره؟ ولا سيما وقد كان يقول أنه لا يحب إلا التاريخ وتاريخ الآداب خاصة، ولكن كيف كان يعرف هذا النوع من العلم؟ كنا ننظر إلى كتبه المكتوبة بالخط البارز والتي أصطحبها حين أقبل إلينا، فكنا لا نجد إلا ديوان فرجيل وبعض الآثار الفرنسية الكلاسيكية، وبعض كتب النحو، ومع أن هذه الكتب كانت تزحم غرفته فإنها لم تكن في حقيقة الأمر إلا شيئا يسيرا جدا مما يستعين به التلاميذ. ماذا كان يتصور من أمور البحث التاريخي ومصاعبه؟ ألم يكن حقا علينا أن نوجهه إلى نحو من أنحاء هذا البحث العقلي الذي يمكن أن يعتمد فيه الباحث على تفكيره الخاص، فان صاحب ما بعد الطبيعة أو الأخلاق أو المنطق أو فقه اللغة، يستطيع إلى حد ما أن يعتمد على نفسه. فكان علينا إذن أن نبين له إلى أي حد يعرض نفسه لخيبة الأمل إن مضى في طلب التاريخ، وأن نمحو هذه الآمال التي كان يعلل نفسه بها. ولكني رأيت إلحاحه وحزنه، فاعتزمت سرا أن أخضعه لامتحان لا يعلم به أحد.
فكلفته أن يهيئ بحثا عن أسطورة من أساطير لافونتين، وهي أسطورة الطحان وأبنه والحمار، ليلقيه في محاضرة قريبة. فقبل محزونا لأني كنت قد كلفت رفاقه بأبحاث أخرى أوسع من بحثه وأعظم خطرا، وكان يحس أني كنت أريد أن أحصره دائما في التمرينات المدرسية التي كان قد شبع منها حتى أدركته التخمة قبل أن يدخل مدرسة المعلمين، ولم يكن يطمئن إلى هذا الموضوع إلا حين أنبأته بأن أستاذي جاستون باري قد خصص له صفحات عشرا في بحثه المعروف عن القصص الشرقي وأثره في الأدب الفرنسي. وكنت