الإنسانية أفأعطيهم بطني ليشقوه، ويردوني مريضاً بعد إذ أنا معافى وأتعجل الداء بنفسي؟ أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين
لم يكن يفزعني شيء وأنا مريض مثل ما يفزعني الليل بسواده وامتداده. كنت أخافه أشد الخوف، وأحسب لمجيئه الدقائق والثواني، وأرقبه كما يرقب المحكوم ساعة القتل، ذلك أني لم أكن أستطيع النوم ولا أطيق الجلوس، وإنما أستطيع أمراً واحداً، هو الاضطجاع على قفاي أحدّق في السقف ليلاً ونهاراً. . . ولطالما رأيت في السقف بقعة سوداء، فخيل إليّ لطول التحديق فيها، أنه حية تريد أن تنقضّ عليّ أو رتيلاء كبيرة ذات تسع وتسعين رجلاً وعشرة رءوس، أو مجموعة من العقارب أو عفريت من الجن، أو جني من العفاريت، فأصيح فزعاً وأنطلق أهذي هذيان محموم حرارته أربعون. . .
إني لأضحك الآن، وأكركر من الضحك حين يعيدون عليّ ما كانوا يسمعون مني إذ أهذي، وأرى فيه صورة واضحة لكثير مما نقرأ في الصحف والمجلات ينشره أصحابه على أنه أدب، ويقرؤه الناس على أنه ثرثرة وهذيان محموم!
وكان أحبّ شيء إليّ وأنا مريض أن يكثر الناس من حولي، ثم يتحدثوا شتى الأحاديث لأخلص من وحدتي وأتسلى عن ألمي وأذكر جانباً مما في الحياة. . . ولكني كنت أسمع أصواتهم كأنها خارجة من جوف بئر سحيق، أو أعماق مغارة بعيدة، وأراهم من خلال ضباب كثيف، فلا أتبين صورهم ولا أصواتهم، وسرعان ما أملّ منهم وأطلب جديداً. كانت أيامي متشابهة متشاكلة، فكنت أحب أن أجد كل لحظة شيئاً جديداً
ضعفت قواي وضاعت إرادتي ولم يبق لي طاقة على المشي، ولا قدرة على المحاكمة العقلية، ولم يبق حياً فيّ إلا لساني. . . أكل ذلك لأن جرثومة صغيرة دخلت جسمي. . .؟ يا لضعف هذا الإنسان القويّ!
تألمت في هذا المرض لكني تعلمت. تعلمت في الحياة درساً جديداً، وما الحياة إلا دروس. . . هو أن المرض نعمة ليس بنقمة، وأنه لازم للإنسان لا يدرك قيمة الصحة ولا يعرف معنى الحياة ولا يرجع إلى نفسه إلا إذا مرض، هنالك يدرك معاني هذه الأشياء التي يمرّ بها وهو صحيح مراً سريعاً لأنه مشغول عنها بما لا نهاية له من الصغائر والترهات، وإن للمريض - قبل كذة الصحة - لذتين، لذة هذا العطف الذي يحاط به والحب الذي يغمره،