ولن أنسى أبداً عطف مدير الكلية وناظرها عليّ وحبّ الطلاب إياي وإني لأسيغ ذكرى الألم إذا تصوّرت هذين الطالبين اللذين كانا يقيمان الليل كله بجانبي، إذا قلت آه أو انقلبت من جنب إلى جنب كانا واقفين أمامي. آثراني على أهلهما وفضّلاَ راحتي على راحتهما، أما عطف اخوتي وأهلي فلست أذكره. . .
ولذة أخري، وهي اللذة الكبرى التي يجدها ساعة يلجأ إلى الله، ويدعوه مخلصاً مضطراً، وكنت إذا وصف لي مريض به مثل ما بي اليوم، يُدار بي من الرثاء له، والخوف مما هو فيه فلما غدوت مريضاً، لم أجزع ولم أخف، وكانت تمر بي لحظات أضيق فيها بهذا القيد إلى السرير وهذا الألم، ويبلغ بي الضيق في الليل أقصاه، ولكنها كانت تمر بي لحظات كنت أرضى فيها كل الرضى، وأفئ فيها إلى ربي، وأرى ما أنا فيه امتحاناً لصبري، ونعمة من الله تزيد في أجري، فأطمئن ويبلغ بي الأمر إلى أكثر من الاطمئنان إلى نوع من اللذة الخاصة لا أشعر بمثلها في الصحة، وإلى لون من النشاط والقوة لا أعرفه قط وأنا معافى، وأحسب أن لو أصبت بأشد الأمراض وأقواها، وأنا أقدر على هذا الرضا، وأحس هذا الاطمئنان لما وجدت فيه إلا لذة. هذا ما كنت أجده لا أبالغ ولا أتخيل، فأرجو أن يصدقني القراء، وهذه نعمة من نعم الله الخفية على الإنسان، ومظهر من مظاهر القوة الهائلة التي أعطاه، فلا يحكم الإنسان على المريض أو البائس بظاهره. فيشك في عدل الله ورحمته، ولكن ليدخل إلى الداخل، لعل وراء الجدار الخرب قصراً عامراً، ولعل خلف الباب الضخم كوخاً خرباً، ولعل في هذه الثياب الرثة، وهذا الجسم الممزّق البالي نفساً مشرقة سعيدة وإنساناً كاملاً. . .
وتعلمت من المرض أن المساواة التامة هي سنة الله في الحياة. انظروا المرض هل يعرف غنياً أو فقيراً؟ هل يمتنع منه الملك الجبار رب القصر والحراس؟ وهل تمنع أبوابه وجنده هذا المخلوق التافه الصغير من الدخول؟ سد الأبواب، وأغلق النوافذ، وأقم الجند بالسلاح، وعش في صندوق مغلق، إنه يدخل مع الهواء الذي تنشقه، والماء الذي تشربه، والطعام الذي تأكله، ويحتل جسمك، ويعيش في عينك وفمك، ويسبح في دمك
ترفع عن المساكين، وتكبر على الفقراء يرجعك المرض إلى صفوف المساكين والفقراء، فتألم كما يألمون، وتصيح مثل ما يصيحون، وكل ما في الحياة يسوّى بينك وبينهم؛ هل