أما النثر، وأعني النثر الفني بالضرورة، فكان أشد نسولة وأبلغ تزايلا؛ كلام لا يكاد يجري لغرض أو يستشرف إلى غاية؛ إنما هو السجع يلتزم فيه كله فترى فيه السخن والبارد، والحلو والحامض.
لم يكن من شأن هذا المقال أن يعرض للأسباب التي بعثت هذا الأدب القوي العالي الذي نذوقه اليوم، فذلك مبسوط في كتب تاريخ الأدب العربي. وإنما عقدنا هذا الكلام لأيراد موجز من تاريخ التكسب بالأدب عندنا في العصر الحديث كما ذكرنا في صدر هذا المقال.
لقد كان التكسب بالشعراء، في الجملة، من طريق واحدة، هي أن طائفة ممن يتكلفون نظم الكلام كانت الحاجة تبعثهم إلى أن يرتصدوا إلى حكام البلاد وأعيانها وموسريها حتى إذا دخلت على أحدهم نعمة من أي لون كانت أو مات له ولد أو نسيب بادروا بأزجاء التهنئات يموهون حروفها بماء الذهب، أو المراثي يجللون رقاعها بالسواد، ولا يزالون يختلفون اليه في طلب العطية. وقد لا يظفرون، في الغاية ألا بتسريح بغير إحسان. ولقد أساء هؤلاء إلى الأدب إساءة بالغة، بحيث نشأت ناشئة الجيل الماضي وهي لا تكاد ترى في الأدب إلا الكدية، ولا في الأديب إلا أنه شحاذ! أما التكسب بالنثر فكان له طريق آخر أقبح من ذاك وأخزى. وذلك بأصدار صحف صغيرة حقيرة قد تظهر مرة في الأسبوع أو في الشهر أو في نصف العام. ومادة كسبها في الواقع من تخويف ضعاف النفوس بتشهيرهم وطلب معايبهم والتدسس إلى مكارههم إلى أن يشتروا أعراضهم، فأن فعلوا وإلا فلأمهم الهبل.
ولقد إنتهى، والحمد لله، هذان الضربان من التكسب بالأدب ولم يبق لهما في بلادنا، على ما أرى، من أثر. ولعل ذلك راجع إلى تغير فهم الناس لمعنى الأدب، وإرتفاعهم به على ذلك الهوان، وإلى إنتشار الثقافة بوجه عام، وإلى خشية سطوة القانون بوجه خاص.
وليس معنى هذا أنه لم يكن هناك لا أدب ولا أدباء، بل كان الشعراء وخيار الكتاب، إلا أنه لم يكن يتكسب أحد من هؤلاء (ما عدا الصحفيين المحترفين) بصنعة القلم.
نعم كانت الصحافة بمعناها الصحيح، ولا زالت مهنة كريمة نبيلة تجدي على أصحابها وعلى المشتغلين بها ما يعودون به على شملهم، بل ما قد يغنيهم ويضيف إليهم الثروات الضخام. أما هواة البيان على حد التعبير الحديث، فلم يكن لهم من هذه الجدوى نصيب.
ثم كانت (الجريدة) وقام على شأنها الأستاذ العلامة الكبير أحمد لطفي السيد بك، فرأى أن