فجهلت الربا والدين، وأنكرت المحكمة فأنكرت العداوة والظلم، ووضعت فضل مالي في أيدي ذوي الخلق من التجار يحفظونه لي ويستثمرونه لهم، وجعلت أرضي في ذوي الدين من الزراع يريعونها علي ويستغلونها عليهم، ومسست بالمواساة والرحمة قلوب البائسين حولي فسللت منها الضغينة؛ ثم كان لي في كل مبرة سهم، وفي كل مستشفى سرير، وفي كل مشروع وطني يد. فأنا أمشي في الناس ملحوظ الشهادة محفوظ الغيب، لا تمتد يد إلى مالي لأنه مبذول للسائل والمحروم، ولا ينبسط لسان في عرضي لأن جاهي موقوف على العاطل والمظلوم، ولا يأتمر أحد بحياتي لأن وجودي أمان للشقي من البؤس والجريمة
أما سعادتي في نفسي وولدي فهي أعظم وأتم من سعادتي في عملي ومالي: أجدني كنف الرجاء لكثير من الأسر الفقيرة، ومصدر العزاء لطائفة من القلوب الكسيرة؛ وأرى في كل نظرة وفي كل بسمة وفي كل كلمة معاني لا تتناهى من العرفان والحنان والشكر، فتعظم سعادتي في نفسي، وتجمل دنياي في عيني، ويغمرني شعور من عزة المؤمن وزهو الخاشع، لأن حياتي لها هذا الخطر في حياة بعض الناس. ثم أنظر إلى بني الثمانية فأرى في وجوههم صورتي، وفي صدورهم محبتي، وفي شعورهم عاطفتي، وفي ميولهم رضاي، وفي آمالهم مناي، فأقبل يدي ظاهراً وباطناً وأقول لنفسي: احمدي الله واشكريه فإن علياً لن يموت، وإن ثراءه لن يبيد، وإن بناءه لن يتقوض!
ذلك كله يا سيدي بفضل الخلق. فإذا كان قد تهيأ لمثلي على جهله بقواعد المدنية وضروريات العلوم أن يجمع بمعونة الله وحده هذه الثروة الضخمة وليس له رأس مال من إرث ولا فيض رزق من حكومة، وإن ينال هذا الجاه العريض وليس له نسب عريق في أسرة ولا سبب وثيق إلى سلطان، وأن يخلق من حوله هذا النعيم المقيم فيغرق فيه أهله وعشيرته وبيئته، وأن يرفع بناء الأخلاق الفاضلة في بنيه بالتربية وفي أهله بالقدوة وفي مواطنيه بالتقليد، فكيف لا يستطيع معلمو المدرسة ووعاظ المسجد ومشرعو البرلمان أن يخلقوا في كل مكان هذه البيئة وتلك الجنة فيصلح المجتمع ويسعد العالم؟
فقلت له وقد أعجبني عقله وأمتعني حديثه: يا سيدي، إن من سعادتك وسعادة الناس بك أنك صاحب عمل لا صاحب علم، ورجل عزيمة لا رجل رأي. ولو كنت من كهنة العلم لصعدت إلى قدس الأقداس وظللت تقرأ الفلسفة والأخلاق لرياضة العقل أو للذة المعرفة أو