استوفت عناصرها الأدبية كانت أدبا، مهما كان موضوعها الأخلاقي، وليس أحد ينكر أن قصائد أبي نؤاس الفاجرة الداعرة أدب، كما لا ينكر أحد أن الصورة العارية إذا أجيد تصويرها فن جميل، وان لم ترض عنها الأخلاق. فالأدب للأدب والفن للفن، ولكن هذا لا يمنع أن تكون سلطة المصلحين فوق سلطة الأدباء؛ فإذا رأى المصلحون أن ضربا من الأدب يحل الأخلاق ويفك عرى المجتمع، حاربوه بكل ما استطاعوا من قوة، وإذا رأوا أن ضربا من الأدب في الأمة ضعيف ويجب أن يقوى، طلبوا الإكثار منه بشتى الوسائل، وشجعوا عليه ومهدوا له السبل، وهذا هو موقفنا بالضبط. فقد كثر فينا ما نسميه بالأدب المائع كثرة تحل الأخلاق وتضعف الرجولة، وهذا الأدب المائع من غير شك أدب، وقد يكون أدبا راقيا، ولكن يصح أن نخضعه لنظر المصلح. فإذا كان المصلح الاجتماعي قويا ضرب على هذا النمط من الأدب ولو إلى زمن محدود، حتى تستكمل الأمة قوتها ورجولتها. ومثل الأدب في ذلك مثل العلم، فالأدب للأدب كالعلم للعلم - فان أردت بقولك أن الأدب لا يكون أدبا إلا إذا خدم الحياة فأنا مخالفك، وان أردت أن المصلحين والدعاة يجب أن يخضعوا الأدب لأغراض الحياة الصحيحة فإني موافقك.
وبعد - فقد غلوت يا أخي في رأيك، فلم ترد أن يكون في الأدب حب إلا من نوع خاص، وأردت من الأدب أن يكون قويا وقويا فقط، وبعبارة أخرى تريد أن تكون حياة الأدباء حياة حربية ليس فيها إلا القوة وما يبعث على القوة، ليس فيها زهرة جميلة ولا غزل ظريف، وأنا أخشى أن الأدب باقتصاره على القوة يفقد القوة، فان للنفوس سآمة، ويحسن أن يكون بجانب صوت المدفع والقنابل صوت العود والقانون. ولقد كنت أكتب في هذا الموضوع حتى إذا وصلت إلى هذا الموضوع شعرت بملل، فما هو إلا أن سمعت نغمة رقيقة من بيانو فأصغيت إليها حتى استكملتها فعادة نفسي إلى نشاطها - ألا يكون في هذا مثل صالح للحياة الأدبية؟ فجد وهزل، وتغن بالحرية، ونعي على الاستبداد، وتغزل في زهرة، وفكاهة حلوة. هذا يا أخي أصلح حتى من الناحية الجدية، فمن لم يله أبدا قصرت حياة جده وتقبضت نفسه، ولم يتحمل طويلا مرارة العمل، وأن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى. أحب أن تكون الحياة الأدبية كفرقة الموسيقى: لا طبلا فقط، ولا نايا فقط، بل هما وغيرهما، وعيب حياتنا الأدبية الحاضرة أنها رخوة فقط، فيجب أن يضاف إليها نغمات