للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مات فيه أبو صاحبه، فزاره ليعزيه، ثم لم يسعه إلا أن يفضي إليه بما يملأ قلبه من السرور وأن يبلغه أن الفتاة رضيت أن تكون زوجته، فأحتمل الرجل الصدمتين: صدمة الموت وصدمة الحرمان، وتناول زجاجة الويسكي وناول صديقه كأساً وتناول هو أخرى، قالت السيدة: وقد ظلا يشربان إلى الهزيع الثاني من الليل. وقد كانت تروي لي هذه القصة وهي معجبة بسعة صدر ذلك المفجوع في أبيه وفي حبه، وعظم ضبطه لنفسه؛ ولم يكن إعجابها به لأنه أستقبل صديقه وراح يسامره وأبوه الميت لا يزال في البيت فإن الموت مألوف لا جديد فيه، ولا خير من تقطيع القلب حسرات من جرائه، وإنما كان الإعجاب لأنه أحتمل الهزيمة في ميدان الحب على هذا النحو الكريم

مثل هذا لا يمكن أن يحدث في مصر. ولو أن اثنين تنافسا على فتاة، لما كان من سلامة الذوق أن يذهب الفائز بها إلى مزاحمه ليطلب منه تهنئته بذلك ومشاركته في سروره، فإن هذا في عرفنا أشبه بأن يكون شماتة ومكايدة، فكيف إذا كان أحدهما أبوه ملفوف في أكفانه ينتظر أن يحمل إلى قبره؟

وأكثر ما نراه من مظاهر الحزن أو الجزع عندنا من التكلف ولاسيما بين النساء. ولكن لماذا يتكلف المصريون هذا ويحرصون على إبدائه؟ أترى تكلفهم هذا يرجع الأمر فيه إلى الجهل أم إلى شعور بشيء في الطباع؟ لا أدري، ولكن الذي أدريه أن التجلد يكون مما يتحدث به الناس ويلهجون بذكره، كأنما الأصل هو الجزع. وإني لأذكر أني تظاهرت بالاطمئنان، وتكلفت الابتسام لما ماتت أمي، بين يدي، وكنت أخادع أخي وأخادع سيدات كثيرات كن في تلك الساعة في البيت، وقد كرهت أن ينفجرن بالصراخ والعويل واللطم، وأمي بينهن في ثيابها التي كانت تلبسها لما حضرتها الوفاة، فلما عرف أخي ما دبرت ساءه هذا مني وكبر عليه أني زعمت له أنها نائمة وهي ميتة، وأني تبسمت وكان حقي أن أبكي، وبقي أياماً لا يكلمني، وإذا لقيني ترقرقت الدموع في عينيه؛ ولا أدري ماذا كان يجديه أن يعلم أن روحها فاضت قبل ساعة أو بعد ساعة، وأحسب هذا من الحزن، ولم أكن دونه حزناً، بل لعلي أعمق منه حزناً عليها، ولكنه كان عليّ ما لم يكن عليه من الواجبات في تلك الساعة فاحتجت إلى خنق شعوري حتى أفرغ من الأمر على ما أحب

وكانت لي طفلة صغيرة ماتت، فاحتلت حتى استطعت أن أواريها التراب وأمها تعتقد أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>