للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بنتها لا تزال على قيد الحياة، وكانت الأم مريضة، وقد أوصاها الطبيب بالتزام السكون واجتناب الحركة والأنفعال، فلم يسعني أن أفعل إلا ما فعلت، وكان هناك عامل آخر غير الموت يزيد في ألمي، وذاك أني موقن أن الإهمال هو الذي جر الموت، والآجال بيد الله، ولكن لكل شيء سبباً، وكانت البنت قد أصيبت بالحصبة، فاحتجنا - لمرض أمها - أن نكل العناية بها إلى خادمة كنا نظنها حاذقة ذكية، فأصيبت البنت بالتهاب رئوي قضى عليها وأودى بها؛ غير أن ما كان كان، ولا حيلة فيه لإنسان. فكظمت غيظي، وكتمت ألمي، وتشددت لأعين الأم المسكينة على الصبر. وجاءني بعض الأصدقاء يعزونني في المساء فألفوني أبتسم وأضحك وأمزح فتعجبوا، ولا محل للعجب في الحقيقة، وأحسب الأمر قد صار عندي عادة وما أظن بي إلا أني أصبحت (كالحانوتي) والمرء مما تعود

ولم أكن هكذا في صغري. وإني لأستحيي أن أقول كيف كنت أحمق طياشاً قليل الصبر سريع التأثر، ولو شئت لقصصت على القارئ مائة حكاية وحكاية، ولكني لا أنوي أن أفضح نفسي، وقد صرت يهون على كل شيء إلا أن يراني الناس لا أملك زمام نفسي، ولا أستطيع ضبطها وكبحها. ومن العسير أن أعرف البواعث التي أغرتني بهذا الكبح وزينته لي حتى أصبحت لا يسخطني شيء كأن يتلفت زمام النفس من يدي. وفي وسعي أن أقول في هذه البواعث، ولكني لا أحسب أني قادر على الإحاطة بها أو مهتد إلى الخفي منها. وما ذكرت الموت إلا لأنه في مصر مما يغتفر الجزع حياله، وإن كان المرء يلقى في حياته ما هو شر منه وأدهى، وقانا الله السوء ولطف بنا. ولم تهن علي الحياة، ولكني مللت طول الحيرة التي يورثنيها النظر في وجوهها وأضجرني العجز عن الاهتداء والفهم، فنفضت يدي يائساً وقلت فليكن ما يشاء الله أن يكون، ولأعش كما يتيسر لي أن أعيش والسلام، ولأدع عناء التفكير والنظر لمن أراد أن يحطم رأسه، فإني أنا لا أشتهي هذا التحطيم، وقد جربته فلن أعود إليه. ومن هنا قلة مبالاتي. وماذا أبالي بالله؟

إبراهيم عبد القادر المازني

<<  <  ج:
ص:  >  >>