وثالثها نقص جزء مهم في الصورة التي يتخيلها الشاعر ويريد إبلاغها إلى النفس. ورابعها ازدحام جملة من الصور الفكرية وتداخلها في رقعة واحدة ضيقة بحيث يتعب العين تبينها دفعة واحدة ويجهد الذهن تصور علاقة أجزائها بعضها ببعض. وخامسا إظهار القطعة الفنية قبل نضوجها في الفكر، وقبل اختمارها في النفس. وسادسا ابتعاد الصورة التي يرسمها الشاعر عن تصور الجمهور ومداركهم مما هو مألوف عندهم ومعهود لديهم في معارفهم ومشاعرهم الماضية والحاضرة، حتى في معارفهم ومشاعرهم التخيلية؛ وأجزاء الصورة الخيالية التي ترتسم في ذهن الإنسان تتكون في الحقيقة في المواد التي تتألف منها معارفه ومشاعره الماضية والحاضرة عينها
هذه هي العوامل الأساسية لغموض لغة الشعر والبيان إذا كنا نستند في بحثنا إلى الحقائق الصريحة. أما إذا أردنا أن نموه على القراء فنستطيع أن نقول ما يخرج عن نطاق هذه العوامل ونستطيع أن نرغم الناس على أن يتصوروا في القطعة المعقدة بسبب من الأسباب الآنف ذكرها غموضا ينطوي على إبداع فني، ونقول لهؤلاء الناس إن أذواقكم الفنية أحط من أن تصل إلى رؤية هذا الإبداع، وان مستوى شعوركم وتفكيركم، أوطأ من أن يدرك هذا الفن البديع المتلفع بهذا الغموض. .
لقد جاز الشعر والأدب أدوارا غريبة، ووجد الشعر والأدب في ظروف عجيبة، وكان العامل في هذه الغرابة وهذا العجب النقدة من الكتاب والأدباء، فقد لعب بعضهم أدوارا طمس فيها الحقائق وأبرز إلى الناس الغث سمينا وأرغمهم على اعتبار السمين غثا.
ولولا شعوذة هؤلاء النقدة ومهارتهم في تصريف الكلام ومقدرتهم في البيان لكان جمهور الناس يرون في ترتيب طبقات الشعراء والأدباء غير ما يرونه الآن. نعم لو ترك هؤلاء الكتاب الناس وشأنهم يقرأون الشعر بصورة طبيعية ويفهمونه كما هو المقصود منه، لما كنا الآن مرغمين على أن نؤمن بالأحكام الثابتة في المفاضلة والموازنة بين شاعر وشاعر أو بين أديب وأديب.
ولكن اعتدادهم بأنفسهم ساقهم إلى أن يقولوا مثلاً إن الشاعر الفلاني أراد بقوله كذا. . . كيت وكيت - ولم يقصد كيت وكيت.
ولعل أقوى حجة يتذرع بها من يرون تحت الشعر الغامض إبداعا فنيا، هي إن الإنسان إذا