جابه منظرا رائعا في ثوب جمال من مناظر الكون يرى في المرة الثانية فيه ما لم يره في المرة الأولى ويلتذ بما يراه في المرة الثالثة اشد من التذاذه بما رآه في المرتين الأولى والثانية. أما أنا فاعتقد أن هذه الظاهرة لا يصح على الإطلاق اتخاذها دليلا على اعتبار الغامض من الشعر ذا قيمة فنية.
فكل بديع في هذا الكون من منظر إلى صوت إلى شعر يلازمه الوضوح كيفما تكيف وتطور وتصور. والوضوح جوهر الجمال الحقيقي، أما (الغموض) بمعناه الذي يعرفه الناس فلا يجتمع مع الإبداع أو الجمال في صعيد واحد، وقد يجهد الإنسان نفسه ويكد ذهنه إذا سمع قطعة شعرية فيها شيء من الغموض، وقد يجد في هذا الإجهاد والكد لذة التوصل إلى الصورة الذهنية المقصودة. فليس من الضروري أن تعتبر هذه اللذة ناشئة من تلمس الإبداع، وإنما هي ناشئة من التوصل إلى نتيجة بعد إجهاد وكد.
لقد ذكر الأستاذ العقاد جملة عبارات يؤيد بها أن وراء الغموض في الشعر والأدب إبداعا فنيا، وكان من جملة ما ذكر أن الإنسان قد يقرأ كتابا غير مرة فيجد فيه كل مرة من المعاني ما لم يره في القراءات السابقة. وعندي أن تفسير هذهالحقيقة الراهنة هين، وعلتها واضحة لا غامضة. هذا إذا لاحظنا أن معارف الإنسان التي تنمي فيه شعوره وذوقه ومداركه تتبدل على الدوام وتتكيف حسب الظروف المختلفة التي يكون فيها. فالأثر الذي يتركه مطالعة كتاب في نفس الإنسان في وقت ما ذو علاقات متنوعة بشعوره وذوقه ومزاجه في ذلك الحين، وان الانطباعات التي تتولد في نفسه من معاني ذلك الكتاب تتناسب مع ما ذكرناه في ذلك الحين فقط. أقول في ذلك الحين فقط، لأن الشعور والذوق والمزاج ظواهر نفسية تتبدل وتتطور بالنظر إلى الظروف المحيطة بالإنسان. فليس ثمة غرابة إذا وجد الإنسان في مطالعاته المتوالية لكتاب ما معاني جديدة لم يكتشفها في مطالعاته السابقة. ولا ينبغي أن تعتبر هذه الصفة في الكتاب غموضا، لأن تبين جميع المعاني والمرامي المقصودة في الكتاب دفعة واحدة أمر مستحيل، ولا يتمكن الذهن من استيعاب جملة معان دفعة واحدة. والذهن مثل العين أو سائر الحواس. فكما إن عينك إذا وقعت على رقعة تحتوي على عدة أشكال لا تحيط بها جميعا دفعة واحدة ولكنها تتمكن من ذلك بتوجيه البصر إلى كل شكل بصورة خاصة، وكما أن الأذن إذا سمعت ألحانا مختلفة لا