يمكنها أن تؤلف بين هذه الألحان إلا إذا أنصتت لكل لحن على حدة، كذلك الذهن لا يتمكن من الوجهة السيكولوجية أن يدرك كل ما أودع في كتاب من معان دفعة واحدة، وهذا ما يجعل الإنسان يكتشف في قراءته المتوالية لكتاب واحد معاني جديدة.
ولكن الخاصة من الأدباء يأبون إلا أن يخترعوا لهذه الظاهرة الطبيعية النفسية اصطلاحا أدبيا وهو ما رمى إليه الأديبان طه والعقاد فأسموه:(بالغموض) فسرد لنا الأول قصة (المقبرة البحرية) للشاعر الفرنسي بول فاليري وتبسط في وصف ما دار حولها من مناقشات وآراء في غموضها وعدم اشتمالها على معان واضحة. فقال من جملة ما قال أن:(كل هذه الآراء وآراء أخرى للشاعر العظيم في هذه المقدمة الممتعة إن لم تبين المعاني التي أودعها قصيدته فهي تبين شيئا آخر أظنه أقوم وأجل خطرا من هذه المعاني، وهو مذهب الشاعر في فن الشعر وما ينبغي له من الارتفاع عن هذا الوضوح الذي يفسد الفن إفسادا ويقربه من الابتذال).
ولكن! إذا لم تتمكن القصيدة من بيان المعاني التي يودعها الشاعر فيها فهي إذن ليست قصيدة، ولك أن تسميها ما شئت.
إن لم تستطع أن تودع المعاني التي تريدها الألفاظ التي تقولها فأنت والصامت أو الهاذر سواء.
وما هو هذا - الشيء الآخر - الذي يظنه الدكتور أقوم وأجل خطرا من هذه المعاني؟:
(هو مذهب الشاعر في فن الشعر)
لا ريب في أن مذهب الشاعر في فن الشعر أجل خطرا من المعاني باعتبار أن العناية بالمذهب هي التي تقوي المعاني وتصقلها فتظهرها ناضجة واضحة براقة، ماضية في نفوذها إلى النفس.
ولا أدري كيف نوفق بين هذين النقيضين: ألا يتمكن الشاعر من إيداع المعاني التي يريدها في قصيدته، وهو بعد ذلك يستطيع أن يظهر مذهبه في فن الشعر.
ويظهر أن الدكتور بعد أن يصل به القلم إلى عبارة (ويقربه من الابتذال) يدرك أن ما أورده (غامض) للتناقض الظاهر فيه فيستدرك الأمر بأن يقول: (فهو يرى مثلا أن جمال الشعر يأتي من أنك تجدد اللذة الفنية في نفسك كلما جددت قراءته، ومن أنك تستكشف في