هي تجيد الإنشاد والغناء حتى لا يغني مثلها بلبل، ولا يجيد أن يرسل مثل نغمها ناي ولا عود. . . أضف إلى ذلك كله مهارة فائقة في الحياكة وأشغال الإبرة وشواغل المنزل. . .
وكان أغنى أغنياء المدينة - صادق علي - رجلاً شيخاً، أشرف على الستين، وكان صديقاً للصائغ، يقضي كل يوم شطراً من فراغه عنده؛ وكانت أسعد لحظاته تلك التي يرى فيها زبيدة الصغيرة تلهو بعرائسها أو تبعث بِبِلْيها، وهي مشرقة أمام الدكان بين أترابها كالقمر الحالم بين الأنجم الحَسْرى. . . ولم يكن أحد يفكر في أن هذا الشيخ الذي أوهنه الكبر قد ثوى في فؤاده من حب زبيدة ما لم يثو في أفئدة الشبان اليوافع؛ وأنه صمم على أن يشتري هذا الجمال وذاك الكمال بذهبه الذي لا يكاثره في ضخامته أحد. . . فلما تقدم خاطبا زبيدة إلى أبيها، هش الرجل وبش، وعده فخراً أي فخر أن يصهر إلى صادق علي ذي الكنوز والضياع والأملاك الشاسعة، والقصور المنيفة العامرة
وذعرت زبيدة أيما ذعر لما صعقها أبوها بهذا النبأ. وكيف لا تذعر وهي تعرف الرجل أحسن المعرفة، وطالما قدمت له أقداح الشاي المعطر، وفناجيل القهوة العربية، في دكان أبيها؟ وكيف لا تذعر، وهي يعز عليها أن يذبل شبابها الفينان، في هاتين اليدين المثلوجتين، وتحت ظلال تلك الشيبة الناصعة، وهذا البدن المهزول المعروق. . . إن سنيها الثلاث عشرة لتنوء تحت كلكل السنين الستين التي يرزح تحتها هذا الرجل. . . وإن حمرة الخوخ وتفتير النرجس وقسمات الخدين وجنة بدنها الخصب الناضج، لأعز من أن تشرك صادق علي في قبره القريب! فلم لا تفزع الفتاة من النبأ المزعج الذي فجأها به والدها في أمسية شقية فتقول له:
- أبتاه! عمرك الله ماذا تقول؟ ما أظنك إلا ساخراً بي! إن صادق علي رجل عادل، وأحسبه لا يرتضي هذا الظلم الذي يوشك أن يحل بي، فهو شيخ عجوز طاعن في السن، وأنا بعد فتاة صغيرة لم تكد تنقضي طفولتي، فأين أنا وأين هو. . . لا لا يا أبي. . .
فيتلطف أبوها ويقول: (هذا حق، إلا أنه يا ابنتي رجل موسر غني ضخم الثراء، وقد مهرك مهراً لم تمهر بمثله فتاة في المدينة؛ وهو مع هذا يحبك وسيحرص عليك كروحه، وحين تصبحين زوجة سيحترمك الجميع وتكونين على رأس السيدات قاطبة. . . ثم هو برغم سنه قوي فتي مفتول العضل، غض الإهاب موفور الشباب. . .