وكان الذي أسخطني على هؤلاء الشبان هذا الكسل والاعتماد على الغير، والرغبة في إفادة المعرفة - كائنة ما كانت قيمتها - بلا عناء أو مشقة. ومن أدراهم أن ما يسمعون مني أو من سواي هو الصواب؟ وهم يتلقون ما تفضي به إليهم منرأى ناضج أو فطير بالتسليم والتصديق وبلا مناقشة.
وأحسست من هيئاتهم ونظراتهم أن الأولى بي أن أدخر جهدي، فأسلمت أمري لله وقلت لهم:(تفضلوا. . . سلوا ما بدا لكم).
فأدنوا كراسيهم، وقد نسوا العلقة التي استقبلتهم بها، وأقبلوا عليّ يسألونني عن الأدب والغاية منه، فضحكت وقلت:(والله ما أعرف له غاية؛ وإني لحي، ولكنى أجهل الغاية من الحياة، فكيف تريدون مني أن أعرف الغاية من الأدب؟ وأعترف أني كنت قبل سنوات طويلات المدد، قد أقنعت نفسي بأن للأدب غاية، وكان الذي جسم لي الوهم هو ما قرأته في هذا الباب، فرحت أنسج على منواله وأقول كلاماً شبيها به؛ ويتفق أن يقع في يدي شيء مما كتبته في ذلك الزمان فلا يسعني أن أضحك ساخرا، لأنه كان من الجهل أو التقليد - كلا. لا أعرف غاية للأدب. . . وقولوا ما شئتم، ولكن الحقيقة هي أني نظرت ونظرت، وحدّقت، وحملقت، حتى كادت عيني تخرج، فلم أر شيئاً؛ وأني فكرت وفكرت، فلم يهتد عقلي هذا إلى شيء. وكل ما اعرفه هو أني أزداد حيرة كلما علت بي السنّ، وإن كل ما كنت أعده من الحقائق الثابتة يخامرني الآن فيه شك كبير. . . والسبب في ذلك، فيما يبدو لي، هو أني أتلقى ما أقرأ بالتسليم، أما الآن فأنا أجادل وأكابر بالخلاف في كل شيء، وقد ينتهي بي الأمر ألي التسليم والموافقة، ولكنى أجد لذة في هذه المكابرة).
فسألني بعضهم:(لماذا قل الشعر السياسي في هذا الزمان؟).
قلت: (لا أدري، وعسى أن يكون السبب أن الناس صاروا أصح فهما للأدب، وأتم إدراكا له، وأكبر عقولا، وأوسع نفوسا. نعم أظن هذا هو السبب، فقد كان الشعر السياسي هو الذي يكثر فيه القول، وكان شعراء ذلك الزمان إذا قالوا في غير الحوادث لا يفعلون ذلك إلا على سبيل التسلي، وليقال عنهم إنهم يجيدون النظم في كل باب. ولكن الناس يدركون الآن أن شعر الحوادث ليس إلا باباً واحداً صغيراً من مئات وآلاف من أبواب القول، أو من