(بواباته). ولم يكن شعر الحوادث شيئا مستحدثاً أو جديداً، لأنه لم يكن أكثر من ضرب من التقليد للشعر القديم، فكما كان المتنبي يقول في حروب سيف الدولة، كذلك كان شوقي يقول في الخديوي وأعياده ورحلاته وفي السلطان وأعماله، ثم بعد ذلك في الحوادث السياسية التي يلح عليه أصدقاؤه أن ينظم فيها كلاما. وكان حافظ يقول في العميد البريطاني وفي سياسة الأنجليز، لأنه لم يتصل بأمير كما اتصل شوقي، فحل الشعر أو الرأي العام عنده محل الأمراء الذين كان الشعراء السابقون ينظمون الشعر لإرضائهم، واقتضت المنافسة بين الرجلين أن يكون حافظ شاعر الشعب، كما كان شوقي شاعر الأمير. وقد تغير كل هذا، وزهد الأدب الحديث في التقليد، ونظر رجاله بعيونهم، وأحسوا بأعصابهم، وفكروا بعقولهم، ففتحت لهم آفاق رحيبة جداً صرفتهم عن القول في الحوادث العارضة، وشغلتهم بما هو أعمق وأصدق في الحياة؛ فلست تراهم يقولون في الحوادث إلا إذا استفزت نفوسهم وحركاتها تحريكا قويًّا يجري الشعر على ألسنتهم، لا تكلُّفا ولا تقليداً، بل لأنهم لا يسعهم في هذه الحالة إلا أن يقولوا. ولاشك أن ثم أسباباً أخرى، أسوق منها على سبيل التمثيل، أن الأدباء يعمل أكثرهم في الصحف، وهم يكتبون كل يوم تقريبا في الحوادث، فلا معنى لأن يقولوا الشعر فيها أيضا، إلا إذا عرضت مناسبة فذة قوية تحرك النفس كما قلت. والكتابة أسهل، والإقناع بها أقرب، والشعر لا يصلح للجدل السياسي كما تصلح الكتابة، ولكني أعتقد أن صحة الإدراك للأدب هي السبب الأول، كائنة ما كانت الأسباب الأخرى. ولا مانع من أن يقول الشاعر في السياسة والحوادث إذا أحس دافعاً إلى ذلك، كما يقول في غير ذلك إذا بعثته البواعث).
فنهضوا، ومدوا أيديهم ليصافحوني، وتمتم بعضهم بالشكر، فابتسمت وقلت لهم (والله إني لتحدثني نفسي بأن أنقض لكم كل ما سمعتم مني، وأن أثبت لكم أن كل ما قلت خطأ في خطأ، وأن الصحيح والصواب غير ذلك. وإني لقادر على هذا. والسر في قدرتي أني أراكم أهملتم هذه العقول التي ركبها لكم الله؛ ولا شك أن له سبحانه وتعالى حكمة في خلق عقول لا يريد أصحابها أن ينتفعوا بها. فليتكم تستطيعون أن تعيروني بعضها ما دمتم لا تنتفعون بها، فإن رأسي قد كل وتعب ومل).