عليه ويغلي شعراء مبرزون. ومن يقرأ شعر ابن الرومي في البحتري يستعجب ويستغرب في الضحك، يقول في مقطوعة خلاصتها:(أن الشاة لا تجزع من ألم الذبح ولا السلخ لكنها تشفق أن يكتب في جلدها شعر البحتري).
قول المقتطف:(فناصر الناس البحتري وفضلوا رقته ورشاقة ديباجته على تعاظل أبي تمام وتعمقه) هذا القول هو الظلم العبقري، وللمعاظلة معانٍ كلها شر؛ والتعمق هنا هو التنطع. وهذا تصوير لشعر ابن أوس مستشنع، ووصف منكر. ولو قالت (المقتطف) وفضلوا رقة البحتري على جزالة أبي تمام لاقتربت من الحق، فقد قال صاحب (المثل السائر): (أعلم أن الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر، فالألفاظ الجزلة تتخيل في السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذوي دماثة ولين أخلاق ولطافة مزاج؛ ولهذا ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم، واستلأموا سلاحهم وتأهبوا للطراد. وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي) وهي طبيعة المرء (أو مزاجه) تدعوه إلى طريقة في القول بل عقيدة في الدين فيستقيد لها ويستجيب. ولن تضير ذا الرقة رقته، ولن تعيب ذا الجزالة جزالته؛ وقوة حبيب ما حرمته لطفاً، وسهولة البحتري ما منعته فحولة. فوصف صاحب المثل هو قول عدل في شعر الطائيين من جهة الألفاظ؛ وأما من جهة (الاستخراجات اللطيفة والمعاني الطريفة) كما يقول المبرد أو لطف المعاني وسموها أو العبقرية الشعرية، فالبحتري دون أبي تمام، والوليد في ذلك تلميذ حبيب. وما أصدق البحتري إذ يقول:(أنا والله تابع لأبي تمام، لائذ به، آخذ منه، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه) وفي (الموشح): (سرقات البحتري من أبي تمام نحو خمسمائة بيت) وعندي أنها أكثر مما قال. وهنا نكتة تروي في هذا المقام: رآني ذات يوم أديب شاعر أقرأ في كتاب فقال: ما هذا؟ قلت: شرح ديوان أبي تمام. فلما أبصر الكتاب وعرفه قال: هذا ديوان البحتري. قلت: نعم. ففهم النكتة. وليس القصد من هذا الكلام تنقص البحتري وتهجينه، بل تقرير الحق وتبيينه. والبحتري هو صاحب القول الطل الجميل، وهو في الشعر العربي ثالث ثلاثة ما جاء قبلهم ولا بعدهم مثلهم. وأستاذ الاثنين - على إبداعهما وعلوهما - هو حبيب. وإن شئت فقل كما قال المتنبي:(حبيب أستاذ كل من قال الشعر بعده) وأبو الطيب