ويتبقى بعد ذلك أن نقرر روح الثقافة المثلى في الجماعة الديمقراطية. وحسبك أن تعلم أن هذه الثقافة لا تفرق بين النظر والعمل تفريقاً كبيراً، وتنظر (للتغير) كقانون عام يتطلب المرونة المطلقة والتجديد السريع، ولا تأخذ بغير الطريقة العلمية التي لا طلاسم فيها ولا خزعبلات؛ ولا تفرق بين مسلم ومسيحي ويهودي خشية أن تلوث تاريخ العالم بالدماء كما قد تلوث طوال الماضي الأثيم. الدين عندها لله والجميع لديها إخوان. ثم هي لا تستعبد الفكر قط، ولا تغرس فيه الأفكار الاجتماعية أو السياسية الخاطئة بالإيحاء الآثم. العقل عندها مقدس فما يجوز أن تشوهه، ومثلها الأعلى في قيمة الدراسات هو ما تقدمه من خير يكمل الفرد والجنس، ومذهبها التوازن بين الجسد والقلب والعقل حتى لا يؤدي الأمر إلى وحشية رائعة من جانب أحد أركان هذا الثالوث ضد الركنين الآخرين وغايتها خلق ذلك الرجل المثقف الثابت في تتبع ما يريد، المستعد لتعديل خطته إذا لزم الأمر، المتفتح العقل لكل ما تقدمه العلوم والفنون، النابذ للأحكام التقليدية متى ما اقتنع بخطئها، المرحب بالأفكار الجديدة، ولكن بعد نقدها وتمحيصها، المتقدم للمساعدة كلما استطاع، والمقنع المجتمع بأهليته للثقة والاحترام. ذلك الرجل الذي لا يسيء إنساناً بقصد أو بغير قصد، والذي يترك مالا يعرف لأنه لا يقوى على معرفته، والذي هو أبداً مطمئن البال ومصدر راحة لنفسه ولغيره. ذلك الذي هو حكيم لسعة اطلاعه، والذي لا يحكم إلا بعد تمحيص وروية والذي يحسن مخاطبة الناس جميعاً برقة ولباقة وظرف؛ والذي يعرف معنى ما يقول ويتكلم بصراحة ووضوح وجلاء، ذلك الذي يعبر بفكره الزمان والمكان ويفهم نفوس الغير سريعاً. ذلك الذي يعلم شيئاً عن كل شيء، وكل شيء عن شيء ما، فلا تكون (الإنسانيات) وغيرها عنده مجهولة كل الجهل؛ ذلك الذي ليس باللاذع في نكاته، وليس بالمسرف المتبذل في شهواته، لأن الجسد عنده هيكل الروح المقدس؛ ذلك الذي إذا شهد التمثيل المحزن أو المضحك استمع له في صمت وجلال وانفعل في صمت وجلال! ذلك الذي لا يذهب إلى الحرب إلا مقتنعاُ بجدارة السبب والذي يعيش مسروراً دائماً مهما أخطأ، فإذا مات لم يطمع في أن يسجل له ذووه على قبره مفخرة واحدة!!
وهذه الثقافة كما ترى تدعو للعالمية بكافة الطرق، وتستبدل بأبطال الحرب أبطال الإنسانية والعلم، وتدرس التاريخ تدريساً بعيداً عن العصبيات الوطنية كما نصح المسيو موسار في