للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اليهود في أوربا، وكانت وما زالت تتبع هذه الخصومة قوة وضعفا، فإذا اضطرمت خصومة السامية، اضطرمت الصهيونية بفورة مؤقتة من الحماسة، وإذا خبت فتر روح الصهيونية المعنوية. وفكرة الوطن القومي اليهودي تقوم من الوجهة التاريخية على أن أرض فلسطين كانت قبل ألفي عام وطن الشعب اليهودي ومهاد مجده، وإنها ما زالت برغم كر الأحقاب مثوى تراثه الروحي وذكرياته المقدسة. وهي فكرة ظاهرة الخطل والإغراق؛ ففلسطين عربية إسلامية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا، ولم تعرف خلال هذه الآماد الطويلة من أثر اليهودية سوى ذكرى التاريخ؛ ولو كانت ذكرى التاريخ تصح سندا لاستعادة الأوطان الغابرة لما كان لشعب أن يبقى اليوم في الأرض التي يحتلها. واليهودية لا وطن لها منذ ألفي عام؛ وقد استقرت منذ الحقب أشتاتا في سائر أنحاء الأرض، وفقدت لغتها وكثيرا من خواصها ومميزاتها القومية؛ ولم تبق اليهودية جنسا موحدا، وإنما هي دين فقط. وقد كان مزجها بين فكرة الدين والجنس من أهم عوامل اضطهادها، لأنها برغم نزولها في مختلف الأوطان وتأثرها بمؤثرات الإقليم والوسط، تأبى إلا أن تعيش دائما في معزل، وتنكر دائما جنسيتها المكتسبة بتعاقب القرون، وتتخذ دائما من الدين جنسية مستقلة. وقد كان هذا الفهم الخاطئ لنظرية الجنسية موضع الإنكار والنقد من بعض مفكري اليهودية الممتازين مثل مندلزون ولسبخ، فقد رأوا أن تتخذ اليهودية أوطانها القومية حيثما حلت مع احتفاظها بتراثها الروحي.

هذا، ومن جهة أخرى فان الصهيونية لم تحسب حساب العرب؛ وقد رأت بالأدلة المادية أن التأييد المسلح الذي أخذته بريطانيا على نفسها لا يكفي لسلامة الوطن القومي اليهودي، وان إرادة العرب أصحاب البلاد يجب أن يحسب لها أكبر حساب. وقد ظهرت هذه الإرادة قوية مضطرمة في حوادث أغسطس سنة ١٩٢٩؛ ثم ظهرت في حوادث فلسطين الأخيرة التي جاءت أقطع حجة على أن فلسطين العربية ما زالت تجيش بقوى معنوية لا تقدر. وهذه الانفجارات القومية القوية التي تضطرم بها فلسطين من وقت لآخر هي وثبات شعب يريد الذود عن حياته وكيانه. فقد رأينا كيف نزعت أراضي العرب من أيديهم، وكيف سلبوا كل مرافقهم ومصالحهم الجوهرية، وكيف فتحت بلادهم لتلقي سيل الهجرة اليهودية تنفيذا لعهد بلفور وصك الانتداب. وقد أقرت لجنة التحقيق البريطانية التي انتدبت على أثر حوادث

<<  <  ج:
ص:  >  >>