للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إن هذه الأشجار متراصة في منابتها على الجزر السعيدة، ولسوف أقتلعها واحدة فواحدة لأغرسها متفرقة فتتعلم احتمال العزلة وتنشأ فيها الأنفة والحزم لينتصب كل منها تجاه البحر وقد تعدب جزعها وتعقدت أغصانها كمنائر حية للبقاء القاهر.

على كل شجرة أن تشخص في مهب العواصف المترامية إلى البحر حيث يتدافع الغمر إلى قاعدة الجبل فلا تغفل ليلاً ونهاراً عن تفحص سرائرها. عليها أن تتحمل التجارب ليعلم أنها من سلالتي وأنها تحدرت من أصلي تعززها الإرادة المجالدة فتبدو صامتة حتى عندما تتكلم، وإذا ما استسلمت تبدو معطية وهي آخذة. وهكذا يتحول من يمشي على أثر زارا بإضرابه وبإبداعه إلى شخصية تحفر شريعتي على ألواحي فيكتمل بذلك كل شيء.

وهاأنذا من أجل هذه الشخصية وأمثالها أسعى إلى تكوين شخصيتي فأمتنع عن ورود السعادة مقتحماً كل شقاء في آخر تجربة أتحملها لأدرك سريرتي.

لقد آن الأوان لرحيلي وقد نبهني إلى وجوب الرحيل خيال المسافر وأطول الأزمان وأعمق الساعات صمتاً إذ نفخ الريح في فتحة القفل فتراجعت درفة الباب قائلة: هيا.

ولكنني كنت مقيداً بحبي لأبنائي يأسرني تشوقي إلى هذا الحب لأصبح فريسة لهؤلاء الأبناء فأضحى من أجلهم نفسي؛ وما الشوق عندي إلا صورة ظاهرة لحقيقة فنائي. إن أبنائي لي وفي هذا التملك يجب أن يضمحل كل شوق مستحيلاً إلى عقيدة مكينة.

وكان رأسي يلتهب بشمس محبتي فأتحرق بحرارة دمي فرأيت أشباح الشكوك تدور بي من كل جهة فتمنيت أن يلفحني قر الشتاء حتى تصطك أسناني من رعشة الصقيع، وما عتم أن اكتسح نفسي ضباب الجليد، فشق الماضي لحوده وبعثت منه الآلام التي دفنت وهي حية فيها، وما تناولها الفناء لأنها كانت نائمة طي أكفانها.

وكان كل شيء يشير إلي بأن قد حان زمن الرحيل ولكنني كنت لا أنتبه إلى هذه الدعوة حتى تحركت أعماقي ولسعتني ثائرات أفكاري. ويا ليت لي القوة للتغلب على ارتعاشي عندما أشعر بقوة التفكير في أغواري تحاول أن تخترق لها منفذاً، فإنني لا أزال أحس باختلاج قلبي عندما أتنصت لدبيب أفكاري وهي تحاول الانجلاء لي. إن في صمتك نفسه أيتها الفكرة ما يشد على عنقي وأنت أشد صمتاً من أغواري. ولكم حاولت أن أستخرجك من الأعماق أيتها الفكرة فخانني العزم واكتفيت بإضماري إياك في ذاتي. إنني لم أتصل

<<  <  ج:
ص:  >  >>