عند (فم الصِّلح) إلى شرقي دجلة: يشرف عليه الجبل من شرقيه، وتجري دجلة إلى غربيه، وينساب نهر الصِّلح في شماله، وتضطرد من حوله الكروم والبساتين، وتنفح عليه الأزهار والرياحين.
ولما علم الرجل أن أمير المؤمنين قد أزمع تشريفه في داره للبناء على ابنته استطار فرحاً؛ ثم ما لبث ذلك الفرح أن أخذ يعبر عن نفسه تعبيرات فنية رائعة تجلت في قصره الذي أخذ يتأنق في تزيينه، حتى صار فتنة للناظرين، ويبالغ في تأثيثه، ليكون جديراً باستقبال الخليفة فيه. وكان مزاجه الشعري يملي عليه بعض الصور الشعرية الرائعة التي كان يخترعها الخيال الفارسي المترف، والتي كانت موضع الإعجاب في ذلك العصر، فيسرف في تمثيلها، ويتأنق في تصويرها، كتلك الصورة التي اخترعها الحسن بن هانئ، وافتتن بها أهل عصره:
كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
فلم يأل في ذلك جهداً؛ ففرش القاعة الكبرى التي أعدها لاستقبال المأمون ببساط نسيجه من خيوط الذهب، وقد تناثرت فوقه حبات اللؤلؤ؛ وهو يتألق ويمج الأشعة في أضواء الشموع، وأي شموع! إنها شموع مصنوعة من العنبر، تسطع بالنور وتنفح بالعطر؛ فجعل كل ذلك يبعث في القاعة جواً سحرياً أخاذاً، تسبح به الروح في أحلامها، وكأنما نرى فيه صورة من الجنة وأخيلتها.
وأما الطريق ما بين القصر ودجلة فقد مهد وحف بماء شاء الخيال المترف أن يحف به من زينة أخاذة. وقد أقام الحسن في طرفه على شاطئ النهر جوسقاً جميلاً، نضدت فيه الفرش، وأعد لاستقبال العباس بن أمير المؤمنين. وكان الحسن في ذلك اليوم الموعود جالساً في ذلك الجوسق ينتظر، حتى وصل الموكب العسكري يقدم موكب الخليفة، فاستقبله الحسن وإن وجهه ليطفح بشراً، ثم مضى به إلى القصر، ولم يمض قليل حتى وقفت سفينة الخليفة على باب الحسن في نهر الصلح، فقام إليه الرجل وهو لا يكاد يكاتم سروره بما أفاء عليه الخليفة من شرف يقصر عنه كل شرف، بزواجه ابنته، وتشريفه بيته
وأمضى المأمون ليلته في سمر وطرب، وكانت (فم الصِّلح) تموج بالوافدين عليها من أهل الدساكر والقرى ممن جاءوا يشهدون المهرجان العظيم، فضلاً عمن كانوا في موكب الخليفة