للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من البغداديين بين أصوات المزاهر والقيان تشق أجواز الجو، وتملؤه بأسمى مظاهر البهجة والهناءة. وقد شاء المأمون أن يمد في أسباب الفرح لهذه الأسرة، وأن يربط بين القلوب فيها، فأمضى في الليلة التالية زواج محمد بن الحسن بن سهل بابنة عمه العباسة بنت الفضل

فلما كانت الليلة الثالثة كان زفاف بوران إلى المأمون. وكان زفافاً اقترن بمظاهر النبل العربي والترف الفارسي؛ واجتمعت لديه عظمة المأمون وكرم الحسن، وكان مبعث بركة على الأسرة العباسية وعلى رجالات الدولة، وعلى أهل الحرفة، وذوي البؤس والمسكنة

فقد ذكروا أن المأمون أذن في هذه الليلة للسيدة زبيدة أن تؤدي حجها، وكانت ممنوعة منه، وكان هذا المنع أثراً من آثار الفتنة التي كانت قائمة بين المأمون وابنها الأمين

كما عفا عن إبراهيم بن المهدي، وكان أسيراً لديه، بعد الثورة التي ثارها عليه، محاولاً انتزاع الخلافة لنفسه؛ ثم خلع عليه، وقلده سيفه، ورد إليه ماله ورفع مكانه، وأتاح للأدب العربي أن يظفر بأمتع ما قاله شاعر في الشكر العميق والاعتراف بالجميل

وهكذا مسح على قلوب أسرته فشفى جراحها، واستل ما كان قد بقي عليه من حفائظ فيها. وما أمجده عملاً إنسانياً كان ذلك الزواج الإنساني النبيل مثاره ومبعث خيره

وأما الحسن فقد كان مضرب المثل في الحفاوة والترف فقد بالغ في ذلك مبالغة الرجل يرى كل شيء من ذلك قليلاً في جانب ما يشعر به، وما يحسب أنه قد ناله؛ فاستوقف أنظار الناس بإسرافه، حتى أصبح موضع أحاديثهم، ومثار عجبهم وتعجيبهم، ومن صور ذلك الإسراف شمعة عنبر أوقدها ليلة الزفاف، تزن أربعين مناً، أي ثمانين رطلاً أو تزيد، وقد أقامها في (تَوْر) من الذهب، مبالغة في السرف، حتى لم يفت المأمون فيما قالوا أن يلاحظ هذا ويأخذه عليهم. وحسبك هذا المثل وما تقدم لتتصور مقدار ما بلغ إليه الترف في هذا الزفاف البديع

كما أقام الولائم الفخمة لكل من كان هنالك من قواده وعساكره، ورجال المأمون وحاشيته، ثم تلك الجموع الحاشدة التي اجتمعت للمشاركة في الفرح، والتي يكفي للدلالة عليها أن نذكر أن طائفة الملاحين فيها كانت تبلغ نيفاً وثلاثين ألفاً، وقد ظل كل يوم يجددها ويفتن فيها، وقد أحاطها بكل مظاهر الجمال والفرح، كما كان لا يفتأ يخلع على القوم شتى الخلع،

<<  <  ج:
ص:  >  >>