والأكتاف، فاطلعت فرأيتني أضطرب في سيل دافق من الأخلاط والطوائف يموج بعضهم في بعض، ويهدرون بذكر الله هديراً طغى على كل صوت وغطى على كل حركة. كان ذلك موكب الطرق الصوفية تجمعت ألوفه من جوانب القطر ليرفعوا إلى ملكهم الصالح فاروق تهنئات الطريقة. لم أستطع الخلوص إلى طوار الشارع من شدة الزحام، ولم أطق السير لا إلى الخلف ولا إلى الأمام، فتركت نفسي إلى تدافع الموكب أرسب في لججه واطفوا على أمواجه حتى أنصب في ساحة عابدين. وهناك رأيت على حواشي الميدان صفوفاً متراصة من الناس يحجزها عن الموكب الذاكر سلسلة من الجنود والشُّرط؛ ووجدت نفسي تحت البنود الخفاقة وبين الفرق الدفاقة أمام الشرفة الغربية من قصر المليك، وقد شرقت من حولي الساحة على رحبها بالطوائف المختلفة الإشارات والشارات والأناشيد، تملأ السماء بالأنغام، وتجلل الأرض بالأعلام، وتجعل من الميدان غابة من شجر الزان تسقسق تحت أفيائها الوريفة أسراب من الطيور الغريبة
أدركت القوم حال من حميا الوجد فترنحوا مهللين ومنشدين، واختلطت على غير نظام ولا انسجام هتفات الناس ونقرات الدفوف وصدحات الناي، فما كنت تسمع إلا لجباً لا يتبين فيه نشيد ولا يتميز به نغم. ثم قرَّت فورة القوم حين تنقَّل على أفواه المريدين أن جلالة الفاروق سيشرق عليهم، فخشعت الأصوات وسكنت الحركات واتجهت النظرات إلى الشرفة الملكية يرقبون منها طلعة المحيا الأبلج الموموق؛ ولكن الشرفة ظلت في سدْلها القرمِزي المتوَّج كأنها شفق الفجر يبشر بالحياة والنور والبهجة قبل أن تهصر الطبيعة ستائرها الوردية عن خِدْر الشمس. فلما طال الانتظار عاد النقباء والخلفاء يرتبون ما يقول الأتباع عند تجلي المليك: - لا ينبغي أن نصفق كما يصفق الأفندية - لا يجوز أن نهتف كما يهتف العامة - قولوا في صوت واحد: الله! الله! - بل قولوا: الله أكبر! - ولم لا نقول: عاش الملك الصالح! عاش أمير المؤمنين؟
- هذه الجهة تهتف بهذا ثلاثاً، ثم تسكت فتهتف الجهة الأخرى: ليحي حامي الإسلام
- أرى أن يهتف المرغنية: عاش ملك مصر والسودان، ويهتف النقشبندية: عاش خليفة الرحمن، ويقول الرفاعية. . .
- لا لا. هذه كلها هتفات لا تزكوا بأهل التصوف. اتفقوا على دعاء واحد تجأرون به إلى