التواضع يغطي جانباً من الحق؛ وقد تكون هذه نية الدكتور هيكل في تأليف كتابه، أراده على أنه (ليس مرجعاً من مراجع التاريخ الإسلامي ولا شيء فيه من تقويم بلاد العرب وإنما هي وقفات في بلاد الوحي ومنزله) ولكنه على ما يظهر غلب على أمره فجاء كتابه مرجعاً من مراجع التاريخ الإسلامي، وجاء خير دليل يجب أن يصحبه كل راحل إلى تلك البلاد، وجاء أيضاً من أهم التقاويم لكثير من الأماكن في بلاد العرب، ثم جاء مشروع إصلاح قويم يهم من يهمهم (العناية بهذه البلاد المقدسة ودراسة حاضرها وماضيها دراسة علمية دقيقة، وما يدعو المفكرين والساسة أولي العزم ليعملوا على إصلاح هذه البلاد)، ثم هو نفحة روحية من أثر الرسول الكريم فاض بها قلب خافق وشعور دافق. فإذا كانت نية الدكتور هيكل على ما ذكرنا من قبل، فلا شك أنه قد غلب على أمره، وتجاوز رغبته في إخراج كتابه، وتحديد الموضوع الذي أراد أن يجري في حلبته؛ وهو تجاوز قد اقتضته طبيعته، ودفعته إليه صناعته، فكان ذلك في حظ العربية وحظ قرائها وحظ رواد تلك البلاد المقدسة
نعم! هو تجاوز اقتضته طبيعة هيكل، لأن هيكلاً كما نعرف صحافي، والصحافي من طبيعته لا يقف عند شيء ولكنه يحب أن يقف على كل شيء؛ ثم هو أديب دقيق الشعور وافر الإحساس يتأثر ويهتاج لكل ما يراه ويقع عليه حسه، فإذا وصف أضفى على وصفه الإحساس والشعور وخلقه خلقاً حياً كله الروعة والجلال؛ ثم هو عالم ناقد ينظر إلى كل شيء بعين فاحصة، وفكر صائب وتقدير سديد، وهذه الغريزة في نفسه هي التي جعلته يقول ما يقول عن حق (إن لحكمي المكان الأول من الاحترام عندي، وإذا لم يكن من حسن القصد أن نعجل بالحكم قبل لأن نطمئن إليه وقبل أن تتم بين أيدينا أسبابه، وكانت العجلة طيشاً غير جدير بمفكر يحترم عقله فليس من حسن القصد ولا من احترام المفكر عقله أن ينحل نفسه حكم غيره قبل أن يمحصه حتى يطمئن ضميره إليه، ومن الجمود الذي لا يقاس إليه طيش أن نأبى تقليب الأمور على وجوهها جميعاً حتى نطمئن إلى بلوغ غاية ما نستطيع من الحق فيها)
وأحب لك أن تتأمل الكتاب بنفسك، وأن تصحب مؤلفه الفاضل من (عزم السفر) حتى (أوبة الرضا) فستقضي في ذلك سفرة سعيدة، ورحلة طيبة، يسعد فيها عقلك بكثير من العلم