للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أمري إلى الهوى!

تركت أول منزل سكنته في بغداد. ويا حسرة القلب على فراق ذلك المنزل الجميل! فقد كان صورة صحيحة للمنزل الذي كنت أسكن فيه حين كنت طالباً بالأزهر الشريف. كان صورة لربع يعقوب بالغورية، على أيامها السلام! وكانت جاراتي في ذلك الربع من الغيد الحسان، وكان فيهن اسرائيلية تأتمنني على كل شيء وتقول: الشيخ زكي مسلم ولكنه ابن حلال

وكنت حقاً ابن حلال. كنت مستقيماً أؤدي الفرائض وأقرأ الأوراد، وما تغير حالي إلا منذ استطعت أن أقول: بونجور مدموازيل! بونسوار مدام!

لم أفارق منزلي في شارع الرشيد بدون حسرة لاذعة، فقد أقمت فيه ثلاثة أشهر أنشأت فيها تسعمائة صفحة، واستقبلت فيه ظمياء تسع مرات، وهو يذكرني بمأواي القديم في ربع يعقوب الذي ألفت فيه كتاب الأخلاق عند الغزالي، واستقبلت فيه الشيخ الزنكلوني والشيخ عبد المطلب؛ ويذكرني بأول منزل سكنته في مصر الجديدة وهو الذي ألفت فيه كتاب التصوف الإسلامي، واستقبلت فيه الدكتور طه حسين والمسيو لالاند والمسيو ماسينيون؛ ويذكرني بغرفتي بشارع أراس في باريس، وهي الغرفة التي ألفت فيها كتاب النثر الفني، وسمعت فيها أنغام اللغة الفرنسية كما ينطقها بناتها، وكما يلحن بها الإنجليزيات والأسبانيات والنمسويات والألمانيات، ولا سيما الشقراء التي ما كانت تتكلم بغير الغناء:

هل الله عافٍ عن ذوب تسلَّفتْ ... أم الله إن لم يَعْفُ عنها يعيدها؟

أمري إلى الهوى!!

لقد انزعج صاحب المنزل حين رأى الحمالين من الأكراد ينقلون أثقالي، وبالغ في التلطف ليردني إلى المنزل. ولكن هيهات، فأنا طبيب أفسده الأدب والطبيب الفاسد لا يطاق

أنا أعرف أني خاصمت نائباً، ولكن يعزيني أن نواب العراق لا يلتفتون إلى المسائل الشخصية، فلن ينالني شر من هذا النائب على الإطلاق. وسأرجو الأستاذ معروف الرصافي أن يصلح ما بيني وبينه إن رأيت ما يوجب ذلك. . . وهل من الكثير أن أخرج على أصول الأدب والذوق في سبيل ظمياء؟ إن هذه الوصيفة تعرف جميع أسرار ليلى، وهي أيضاً ستحدثني عن درية. ويا لوعة القلب من طيف درية! فهل يتلطف الحظ فيمتعني

<<  <  ج:
ص:  >  >>