للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

- ٢٣ -

الرافعي والعقاد

لقد مات الرافعي - يرحمه الله - فانقطع بموته ما كان بينه وبين خصومه من عداوات. وما أريد أن أوقظ فتنة نائمة يتناولني لهيبها أولَ ما يتناول، فما لي طاقة على حمل العداوة، ولا اصطبار على عنت الخصومة، ولا احتمال على مشقة الجدال؛ وإنما هو تاريخ إنسان له على العربية حق جحده الجاحدون فنهضت للوفاء به؛ فإن كنت أكتب عن أحد من خصومه أو أصحابه بما يؤلم أو يسئ فما ذلك أردت، ولا إليه قصدت، ولا به رضيت؛ ولكنها أمانة أحملها كارهاً، وأضطلع بعبئها مضطراً، لأؤديها إلى أهلها كما تأدت إليّ. وإني لأعلم أني بم اكتب من هذا التاريخ أضع نفسي بالموضع الذي أكره، وأتعرض بها لما لا أتوقع؛ ولكن حسبي خلوص النية، وبراءة الصدر، وشرف القصد؛ ولا عليّ بعد ذلك مما يكتب فلان، ولا مما يتوعد به فلان؛ فإن كان أحد يريد أن يصل بي ما كان بينه وبين الرافعي من عداوة فانقطعت، أو يربط بي رابطةً كانت بينه وبين فلان فانفصمت، أو يتخذ من الاعتراض عليّ زلفى إلى صديق يلتمس ودَّه، أو يجعل مما يكون بيني وبينه سبيلاً إلى غرض يرجو النفاذ إليه، أو وسيلة إلى هوى يسعى إليه - إن كان أحد يريد ذلك فلْيمضِ على إرادته، وإن لي نهجي الذي رسمْت، فلتفترق بنا الطريق أو تلتق على سواء، فليس هذا أو ذاك بما نعى من المضيَّ في سبيلي. ومن الله التوفيق!

وهذه خصومة أخرى من خصومات الرافعي، ومعركة جديدة من معاركه. وإني لأشعر حين أعرض لنبش الماضي فأذكر ما كان بين الرافعي والعقاد، أني كمن يدخل بين صديقين كان بينهما في سالف العمر شحناءُ ثم مسحت على قلبيهما الأيامُ فتصافيا، فإنه ليُذكِّر بما لا ينبغي أن يُذكر. والموت يحسم أسباب الخلاف بين كرام الناس؛ فإذا كان بين الرافعي والعقاد عداوةٌ في سالف الأيام فقد انقطعت أسبابها ودواعيها، فإن بينهما اليوم لبرزخاً لا تجتازه الأرواح إلى أُخراها إلا بعد أن تترك شهواتها وأحقادها وعواطفها البشرية. فهنا ناموس وهناك ناموس، ولكل عالم قوانينه وشريعته؛ فما تخلص ضوضاءُ الحياة إلى آذان من في القبر، ولا ينتهي إلى الأحياء من عواطف الموتى إلا ما خلفوا من الآثار في دنياهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>