للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ودون أن يُشهد الناس!. . . هذا. . . وقد تكون أيامه كلهن نوازل يأخذ بعضها برقاب بعض

لشد ما كنت أضيق ذَرْعا بأوفيد وشيشرون ورابوتين حينما كنت أقرأهم فأراهم يشكون ويبرمون ويتسخطون، ويندبون حظهم العاثر، وطالعهم النحس.،. ولماذا؟؟ لأن أحدهم لم تسعده المقادير بزيارة هذا المكان أو ذاك، مما وقر في باله أنه كان حرياً لو قطف ثمار السعادة فيه. . . وليس هذا الهم من الهموم إلا سعادة صرفة إذا قيست بما يجرعه البائسون من غصص الحياة كل يوم. . .

لقد كان أولئك يحيون في بُلهنية وسعة، يحف بهم حشمهم، ويسجد تحت أقدامهم خدمهم، لا يحملون هماً من هموم المادة، ولا يبالون كلفة من كلف الحياة. . . كل هذا بينما كان كثيرون من بني جلدَتهم يجوبون الآفاق في ظمأ ومسغبة، لا يكادون يجدون الكِنّ الذي يدرأ عنهم عاديات الجو وتقلباته. . .

كل هذه الخواطر دارت بِخَلَدي حينما لقيت فجأةً، ومنذ أيام خلت، رفيقاً بائساً كنت أعرفه إذا أنا صبي؛ يطوف في أزقة المدينة وهو يتكفف الناس، وقد جعل يقْزل برجلين إحداهما من لحم وعظم. . . والأخرى من خشب. . . ومن فوق كاهله سترة بحَّار بالية، يتوكأ بها على عُكازةٍ نابية

وهالني أن أراه قد آل إلى هذا المال. . . فلقد كنت أعرفه أميناً دائباً شديد الدؤوب إذ كان يعمل في الريف. . . فبعد أن دسست في يده ما هو حسْبُه، رغبت إليه في أن يقص علي قصة حياته، وطرفاً من أنباء مأساته. . . وأرسل صديقي الجندي الأجذم، وقد كان جندياً حقاً وإن بدا في ثياب بحار، أظافره تعيث في جلدة رأسه، ثم انكأ على عكازته، فعرفت أنه يجمع أشتات الذكريات التي تتألف من أسرابها قصته، والتي ساقها في حديث طويل طلى هكذا:

(لا أستطيع أيها السيد أن أدَّعي أن مصائبي قد فاقت مصائب سواي، أو أنني لقيت من العنت ما لم يلق غيري، إذ أنني، فيما عدا هذه الساق المبتورة، وتلك الأصابع المجذومة، وما اضطررت إليه من المسألة والتكفف، لا أجد والحمد لله ما أشتكي منه!! وإن هذا زميلي تِبْز الذي فقد ساقيه جميعاً، وإحدى عينيه، والذي أقعده كل ذلك عن السعي وراء رزقه. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>