ولقد ولُدت في شُبْشَيَر، ومات أبي - وكان من العمال - ولما أبلغ الخامسةَ بعد، فأرسلت إلى ملجأ إحدى الكنائس ذوات الضياع. . . ورفض القساوسة أن يبقوا عليّ لأنني لم أستطيع أن أنتسب لديهم، ولأنني لم أستطع أن أخبرهم أين وُلدت؛ ومن لي بهذا وأبي - وقاك الله! - كان رجلاً آفاقياً، لا ينتهي من تطواف إلا إلى تطواف! وقذفوا بي من أجل هذا إلى ضيعة كنيسة أخرى، فأرسلتني بدورها، ولنفس الأسباب، إلى ضيعة ثالثة، فرابعة، فخامسة، وهكذا دواليك، حتى حسبتني أقضي الحياة في هذا التشرد الطويل دون أن أستقر، لولا أن تغلبت مروءة الإنسانية آخر الأمر، فخلجت إحدى الكنائس أن تطردني من ضيعتها، فبقيت ثمة، وألحقت بكُتَّابها لأتعلم الهجاء، بيد أنني وا أسفاه لم ألبث به طويلاً، إذ آنس في مُعلم المصنع الملحق بالكنيسة جسماً يافعاً وذراعاً مفتولة لا أيسر عليها من حمل المدق والمطرقة فاختارني لمعاونته في عمله. . . وبقيت هناك خمس سنوات كانت أسعد فترة في حياتي لسهولة العمل، وطراوة العيش، وإقبال الزمان. . . ذلك أنني لم أكن أعمل كل يوم أكثر من عشر ساعات (!)، ومع ذلك فقد كنت أعطي نصيباً وافراً من اللحم والشراب يتناسب مع مجهودي الضئيل، ومع أنني كنت أشتهي لو قضيت حياتي كلها ثمة فانهم كانوا يحبسونني داخل الكنيسة، بحيث لم يسمحوا لي قط أن أعدو وصيد بابها، خشية أن أفر إلى ملجأ آخر. . ولا أدري لماذا كانوا يظنون مثل هذا الظن، والكنيسة كلها كانت حِلا ّلي، وحوشها الكبير أمرح فيه حيث أشاء. .
(ثم نقلت بعد أن شببت إلى مزرعة مجاورة لأعمل فيها من مطلع الفجر إلى غسق الليل، ثم أعود إلى الكنيسة لأنام، وكنت أحمد الله على أن يسر لي أمر طعامي وشرابي، وعلى أن حبب إلي عملي الذي كنت أقبل عليه في رضي وقناعة. . . ولما مات المعلم الذي لزمته طوال هذه المدة، كان طبيعياً أن أهجر الضيعة لأشق طريقي في الحياة بنفسي، ولأكدح في سبيل رزقي فرحت أزرع الأرض، وأنتقل من قرية إلى أخرى، وأشبع إذا لقيت ما أعمله فأوجر عليه، وأجوع إذا لم ألق عملاً حتى أوشك أن أقضي من الطَّوى
(ثم حدث أن كنت ماراً ذات يوم في طريق وسط مزرعة لحاكم الإقليم فلمحت أرنباً برياً يرتع ويلعب ويقضم العشب، فوسوس الشيطان في صدري أن أحذفه بعصاي. . . ففعلت.