وقواته في (المسارّة) على مقربة من قرطبة في أوائل ذي الحجة ١٣٧هـ (٧٥٦م)؛ وكان النصر حليفه، إذ هُزم يوسف وحلفاؤه هزيمة شديدة، ودخل عبد الرحمن قرطبة في يوم الأضحى، واستقبلت الأندلس عهداً جديداً
على أن يوم المسارة كان بالنسبة لعبد الرحمن فاتحة الظفر لا غايته؛ فقد استطاع بعد أحداث وخطوب جمة أن يجوز إلى الأندلس، وأن يفتتح عاصمتها وينتزع إمارتها لنفسه؛ ولكنه ظفر بعرش لم يتوطد سلطانه؛ وكان ثمة بينه وبين ملك الأندلس الحقيقي مراحل شاقة؛ بيد أن هذا الفتى الذي شحذت المحنة والخطوب هممه، استقبل مهمته الفادحة بعزم مدهش، وقضى بقية حكمه وحياته ثلاثة وثلاثين عاماً يغالب صعاباً لا نهاية لها. وكانت الأندلس خلال هذه الفترة كالبركان الثائر، يضطرم كل يوم في ناحية، فلا تكاد الثورة تخمد في ناحية منها حتى تضطرم في ناحية أخرى. وكان عبد الرحمن في خططه وأساليبه طوال هذه المعركة مثال الجرأة والصرامة والقسوة، بيد أنها لم تكن شهوات طاغية ظامئ إلى الدم، بل كانت أساليب عنف يمليها العنف والخطر الداهم. كان عبد الرحمن يعيش من يوم إلى يوم في غمر الخلاف والثورة والخيانة، ولم يترك له الكفاح المضطرم المستمر فرصاً كثيرة لأعمال السلم، بيد أنه خرج ظافراً من المعركة، ظافراً بإعادة الصرح الأموي الذي تهدم في المشرق؛ وتوطيد دعائم الملك الذي غلب، وإنشاء أسرة أموية جديدة في الغرب، قدر لها أن تسير بالأندلس في سبيل العظمة والفخار أحقابا
بيد أن هذا الظفر الباهر كانت تغشاه دائماً آلام نفس معذبة ذلك أن المحنة طبعت نفس عبد الرحمن وروحه إلى الأبد بطابع الكآبة والشجن؛ وهو لم ينس قط أنه سليل دوحة تقصفت واجتثت أصولها الراسخة حيث كانت يانعة زاهرة، وأنها اجتثت في مناظر دموية مروعة كان من شهودها وكاد يغدو في ضحاياها؛ ومن ثم نراه حتى آخر حياته محزون النفس يتلهف على ماضيه، ويبكي مجد أسرته، ويتحسر على فراق وطنه، وعلى نفيه وغربته وقد انتهت إلينا من شعره أبيات مؤثرة تفصح عن آلامه المعنوية مثل قوله في التشوق إلى ربوع الشام:
أيهذا الركب الميمم أرضى ... أقْر من بعضيَ السلام لبعضي