من تحت الماء في حركة من حركات هذا الكوكب! وما كان بروزها السياسي في الحق إلا حركة من حركات الشعوب في هذا المضطرب الواسع الذي نسميه العالم؛ حركة لم تكن متوقعة من قبل، ولم يكن يظن أحد يوم بدأت أنها واصلة إلى ما وصلت إليه!
سمع الناس في أوربا قبل أن تنبعث الرجفة الكبرى من فرسنا بسنوات قليلة عن أنباء عجيبة تأتيهم من وراء المحيط. سمعوا عن الحرية يرف جناحاها الجميلان ويتهلل وجهها الأبلج في تلك الربوع الفسيحة التي وجه كولمبس أنظار العالم القديم إليها قبل ذلك بنحو ثلاثة قرون؛ وسمعوا عن أختها الديمقراطية ترفع علمها وتشهر سلاح الإيمان واليقين، سلاح (جان دارك) الخالد في وجه الطغيان المربد العبوس؛ سمعوا عن مراكب من الشاي تقذف حمولتها في البحر وتأكلها النيران، وسمعوا عن جموع ثائرة تلتقي هاتفة صاخبة، وعن جنود تحشد خفافا وثقالاً، ثم ما لبثوا أن علموا أن الناس روعوا هنالك وزلزلوا زلزالاً شديداً
وجاءت الأنباء تترى بعد ذلك عن حرب طاحنة، تسمع في ضجيجها صيحات الاستقلال وحقوق الإنسان حتى ترامت إليهم الأخبار عن انتصار يتلو انتصاراً تحت راية (واشنجطون). وأخيراً علموا أن إنجلترا سلمت مغلوبة على أمرها واعترفت في عام ١٧٨٣م بمولد دولة جديدة انتزعت منها انتزاعاً؛ ورأى العالم في ذلك دليلاً جديداً على أن الإيمان يفعل أكثر مما يفعل الحديد والنار!
ولدت دولة جديدة كانت قبل ذلك ولايات متنافرة متباغضة ولكنها وجدت نفسها بعد مولدها مملقة فراضت أحرارها على خشونة العيش، وما كان هؤلاء الأحرار بعد استقلالهم ليشتروا به ثمناً قليلاً وهم سلائل أولئك الذين هاجروا من قبل في سبيل الحرية إلى هاتيك الأصقاع من موطنهم الأصلي في إنجلترا. لذلك تحملوا الفاقة وأخذوا يكدحون كدحاً شديداً، وتولت قبائل منهم حين ضاقت بهم المدن أصقاعا من الأرض البكر تنمو فيها الألفاف والأحراج من وحشي النبات، يشقونها ويفلحونها، ويعيشون فيها عيشة أولية كأنما عادت الإنسانية في أشخاصهم تبدأ حياتها من جديد!
وكان هؤلاء في أصقاعهم هذه منعزلين عن عالم المدنية الانعزال كله، يقيمون الأكواخ من كتل الخشب في جوانب الغابات، ويعيشون على الصيد وعلى قليل من الزرع، ويفعلون ما