للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كان يفعل آباء الإنسانية الأولون، يتعرضون لعشرة الطبيعة ولا يأمنون شرة الوحوش ولا هجوم القبائل الأصلية من (الهنود الحمر) ويتناثرون هنا وهناك في مساحات هائلة يمشون في مناكبها جماعات ضئيلة العدد حتى ليخيفهم الفضاء وحده ولو لم يكن فيه شيء من عوامل الخوف

في هذه البيئة الساذجة وفي كوخ حقير من الخشب يقوم وسط فضاء الطبيعة الرهيب الرحيب، فتح إبراهام لنكولن عينيه على هذا الوجود في اليوم الثاني عشر من شهر فبراير عام سنة ١٨٠٩م!

خرج الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة، بل خرج إبراهام لنكولن أحد القلائل الأفذاذ الذين تفخر البشرية بانتمائهم إليها من هذه البيئة ودرج من ذلك الكوخ. وما كان ذلك ليعيبه، بل إنه لمن دواعي الفخار إن قدر لمثل هذا العظيم أن يزهي أو يفتخر. وهو لعمري مدين بجانب كبير من عظمة نفسه وسمو روحه إلى تلك البيئة التي خرج منها؛ ذلك أنه نجا على نقاء عنصره وصفاء روحه من زخرف الحياة وغرورها، ومن مفاسد المدينة وأوضارها، ومن أوهام المجتمعات وكواذب أحلامها، فخلص له معدنه الحر وبقي نقياً لم تعلق به الأوشاب؛ وصار في جميع أفعاله تتكشف جوانب نفسه عن طبيعة صادقة كأنما تتحرك عن إلهام أو تعمل بوحي! وتمثلت فيه البشرية في سذاجتها وكمالها وفي ضعفها وقوتها وفي إسفافها وعلوها؛ وصار الناس يلمحون في سجاياه براءة الطفل وتوقد عاطفته إلى جانب نزعات الفيلسوف ورجاحة عقله! وكم للفقر من يد على العظماء! وكم أخرجت مثل تلك البيئة الطليقة الخالصة من رجال أماثل ومصابيح أعلام قادوا القافلة واستقاموا على الطريقة، أو على الأصح استقامت بهم الطريقة ووضحت المحجة!

ذلك هو لنكولن الناشئ في الشوك من أيامه، وتلك هي صفاته في جملتها كما ستتضح لك فيما سيأتي من حديثه. وكأنك تقرأ سجاياه في أسارير وجهه؛ وتحس فيها ما تعوده في حياته من البأساء والضراء. فإذا نظرت إلى صورته رأيت شبح حياته الأولى في رأسه الأشعث، ولمحت زكانة نفسه في جبهته العريضة العالية المجعدة، وأحسست طيب قلبه وصفاء طويته ورقة عاطفته ونفاذ بصيرته في عينيه الوديعتين المتسائلتين، وتبينت صرامته ومضاء عزيمته في أنفه الغليظ الأشم. ثم أبصرت قوة صبره وشدة تحمله وروعة

<<  <  ج:
ص:  >  >>