استسلامه تختلج كلها على شفتيه المضمومتين المعبرتين عن مض الحوادث، وطالعتك من هاتيك الملامح في جملتها سذاجة الأطفال وهيبة الرجال؛ ثم تهلل من وراء ذلك كله سر العبقرية الذي يدق عن كل وصف ويسمو على كل تحليل!
فتح الوليد عينيه على الوجود في لوح أقيم من الكتل الخشبية في مقاطعة كنتوكي بعد استقلال الولايات بنحو ستة وعشرين عاماً، فنما كما ينمو وحشي النبات في ذلك الإقليم! نما على ما تجود به الحيوانات من ألبانها، وتدثر بجلودها، ثم تغذى ثمار الشجر واضطجع في مهد من أوراقها الجافة كأنه فرخ من أفراخ الطير. ولما بدأ يدر الأشياء وجد عالمه في ذلك الكوخ الذي لم يكن يزيد اتساعه على أربعة أمتار في مثلها والذي لم يكن فيه من الأثاث إلا وحشية وغليظة، من جلود مجففة إلى آنية جافة شوهاء إلى قطع غليظة من الخشب سوتها فأس أبيه التي كان يراها بين آونة وأخرى معلقة على الحائط بجانب أداة أخرى كانت تبدو غريبة في عينه الغريرة، تلك هي بندقية أبيه التي كان يحملها على كتفه كلما سار نحو الغابة، فهي لذلك تختفي في النهار وترى بالليل على حائط الكوخ
وكانت الغابة أو كان الجزء المحيط منها بالكوخ هو نهاية ما يصل خيال من هذا الوجود. حسبه الآن من الوجود أن يلعب ويمرح في هذا المضطرب وإن لم يكن له فيه من رفقة سوى أخته التي تكبره بعام؛ وأن يستمع إلى ما ترويه له أمه من أقاصيص وأنباء يلتهما التهاماً وأن يصغي إلى ما تجيب به عن أسئلته الكثيرة
على أنه كان ينظر إلى الغابة نظرة الرهبة والدهشة معاً؛ وكان يعجب كلما رأى أباه مقبلاً من بين الأشجار، بندقيته على كتفه ومعوله في منطقته، وفي يده طائر أو حيوان يدفعه إلى أمه إذا وصل إلى الكوخ فتأخذه في فرحة ظاهرة وتهيئ الطعام للأب وللأسرة جميعاً
في هذه السن الباكرة يرى الغلام الحياة من قرب رؤية مباشرة، فهو يعيش كما كان يطلب (روسو) في أحضان الطبيعة حيث يرهف حسه ويقوي وجدانه ويعمق خياله وتنبسط نواحي نفسه الصغيرة وتستشف ما في هذا الكون العجيب من سحر وجمال وتستشعر ما فيه من سر ورهبة
أليس يرى من كثب كيف تطعم الأسرة وكيف تكتسي؟ أليس يرى التعاون بين الوالدين وما ينتج من راحة واطمئنان؟ أليس يرى الكدح في سبيل العيش؟ وحسبه في سنة أن يرى ذلك