أقامت الأسرة في انديانا، وتركت موطنها في كنتوكي، وإنك لترى هذا الارتحال من مكان إلى آخر ومن مقاطعة إلى مقاطعة أشبه بتنقل البدو في الصحراء. ليس بين الحياتين من فرق إلا بمقدار ما يكون بين الغابة والبيداء، وبين البيت يتخذ من الشعر أو يقام من كتل الخشب؛ ومن ثم فليس بين المعيشتين من فرق من حيث أثرهما في الخلق والخيال إلا بقدر ما يقوم بين الطبيعتين من اختلاف
وكان لهذا الترحال أثره في نفس الغلام، إذ أخذ الوطن منذ ذلك الحين يتسع في نظره ويمتد حتى أصبح وطنه هو أمريكا كلها؛ فهو مرتحل أبداً مادام العيش يتطلب الارتحال، وهو متخذ من كل مكان وطناً يتصل بنفسه ويعلق بخياله، وظل ذلك شأنه حتى انتهت إليه زعامة الولايات جميعاً وحتى أخذ بيده مقاليد الحكم فيها
وكانت الحياة في انديانا سهلة لا تكلف الناس عناء ولا ترهقهم عسراً، إذ كانت تقوم على الصيد، وكانت الحيوانات موفورة في الغابات لمن يطلب الصيد، ولكن تلك المعيشة كانت إذا قيست إلى معيشة المدن بعيدة كل البعد عن أسباب الرفاهة، بل عن أبسط وسائل الراحة، وحسبك دليلاً على ذلك أن الملابس كانت ما تزال تتخذ من جلود الحيوانات، إلا في بعض الأحيان حين كان يغزل الصوف وينسج بالأيدي وفي الأكواخ، وأن البيوت كانت كما رأيت، وما كانت تفتقر إليه تلك الأصقاع من المتاجر أو سبل الاتصال أو دور الاستشفاء أو دور التعليم إلا ما كان منها في أبسط حالاته، أو غير هذه من مظاهر العمران المعروفة في غير تلك البيئة من البيئات
على أن الصبي كان مغتبطاً ببيته الجديد في أنديانا، يأنس بكثرة الجيران هنا، ويرى الحياة أكثر نشاطاً وأوسع مجالاً، ولقد جاء ذوو قرباه فأقاموا معهم حيث كانوا يقيمون. ومرت الأيام في هدوء وسلام وصفو، وكان كل يقوم بنصيبه من العمل لم يتخلف عن ذلك حتى الصغار؛ فهذا (أيب) وكان غلاماً قوي الساعدين - على نحافته - يبذر الحب في الربيع، ويشترك في الحصاد وقت الصيف، ويطعم الخنازير، ويحلب الأبقار، ويساعد أباه في أعمال النجارة؛ وهذه سارا تساعد أمها فيما لا يحسنه أيب من أعمال البيت. وظل هذا حال تلك العشيرة مدة عامين
ولكن الزمن القاسي يأبى عليهم أن يظلوا في أمنهم وسكنهم فتنتابهم حمى مروعة ينوء بها