للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الناس والدواب، ويحار الكبار والصغار في أمرها وهم لا يجدون طبيباً. وهيهات أن يظفروا بطبيب إلا أن يقطعوا نيفاً وثلاثين ميلاً على الأقل. وهل كانوا يستطيعون أن ينتقلوا بضع خطوات؟. . . لقد هدهم المرض فرقدت الأم ورقد الجيران من ذوي القربى. ثم جاء دور أيب وأخته. . . وأخيراً حم القضاء ووقعت الكارثة فماتت الأم وقد أضنتها الحمى وفتكت بجسدها النحيل! ماتت الأم ورزئ أيب بأول صدمة من صدمات الأيام. وأي صدمة! لقد ضاقت في وجهه الدنيا، وأحس معنى اليتم إحساساً قويّاً زاد من وقعه ما فطر عليه الصبي من عمق الخيال واشتداد العاطفة. ولقد ظل واقفاً أمام تلك البقعة من الأرض التي دفنت تحتها أمه حتى تناوحت من حوله رياح المساء، ومشت في الأفق ظلال الطفل، فذرف الدمع سخيناً وعاد إلى الكوخ كسير القلب موجع النفس يحس كأنه غريب في هذا الوجود الواسع!

وكان قد سبق أمه إلى الموت أبوها وأمها، ذهبا كما ذهبت ضحية تلك الحمى القاسية، وعلى ذلك صارت ربة الأسرة سارا الصغيرة التي لا تزيد سنها على الثانية عشرة! وكانت سارا تخدم أباها وأخاها فيما يلزمهما من شؤون البيت؛ ولكن الرجل لم يطق صبراً على تلك العيشة، فترك - بعد سنة من وفاة زوجته - ابنه وابنته وصحبتهما طفلة دونهما في العمر هي بقية العشيرة؛ ثم عاد إليهم في عربة يجرها أربعة من الجياد! ونزلت من العربة سيدة يذكر أنه رآها قبل ذلك في كنتوكي، ونزل منها غلام وأختان له، وكانت تلك السيدة - كما عرف - زوج أبيه!

ودهش أيب لما رأى من متاع جديد! فقد رأى سرراً حقيقة وكراسي وخواناً ومائدة ومُدىً وسواها مما لم تقع عليه عينه من قبل بين جدران الكوخ. وسرعان ما توثقت عرى المودة بين الجميع، فكوَّن الصغار رفقة تربطها المودة والمحبة، لا يحسون جوراً في المعاملة من جانب ربة البيت الجديدة؛ فلقد كانت امرأة صالحة طيبة القلب، رقيقة العاطفة حلوة الشمائل، ذكية الفؤاد، ازدادت محبة في نفس أيب إذ رأى منها - فوق ما أولته من عطف - ميلاً إلى تعليم الصغار، وسمعها تجادل زوجها في ذلك وتصر على أن يذهبوا عصبة إلى المدرسة؛ وكان الزوج في بداوته يقدم الفأس على القلم ويضن بابنه وقد أنس من قوة ساعديه ومهارة يده أن يرسله إلى المدرسة وهو أحوج ما يكون إلى مساعدته، ولكن رأيها

<<  <  ج:
ص:  >  >>