وكريزيب، وليست كتب الحديثين منهم أي بنيتيوس وبسدونيس الذين كادوا يعاصرون شيشرون في زمانه، ونحن في هذا نعتمد على رأي العلامة جورنز
ويجب ألا يتطرق إلى ذهن القارئ أن ضعف شيشرون في هضم الفلسفة يرجع إلى عيب في مداركه، فللحكم عليه يجب ألا نتأثر بحالتنا الراهنة للفلسفة في أوروبا، وإنما يجب أن نرجع إلى حالة الفلسفة في عهده. فسنجد أن ما نسميه الآن ضعفاً كان قوة، وكان هو سيد العبقريين في زمانه بين أهله وعشيرته، بل إن ما نسميه الآن ضعفاً كان فضيلة لها ميزتان: الأولى أنه أخلص لعبقرية جنسه فأثبت أنه عريق في الرومانية يمت إلى أهله بأصل ثابت، فلم ينفرد عنهم بقوة التجريد. الثانية أنه لم يتصرف فيما نقله عن فلاسفة اليونان فكانت مؤلفاته أو بالأحرى (ترجماته) خير معبر صادق عما ضاع من نصوص، وخير معين على تتبع حركة الفكر عند اليونان دون ضياع حركة ما
ويجب أن يعلم القارئ مع ذلك أن شيشرون لم يكن فيلسوفاً (محترفاً) وإنما كان على وجه الخصوص سياسياً ماهراً وخطيباً مصقعاً لم يعرف التاريخ له مثيلا، وأنه اتخذ من الفلسفة وسيلة لتدعيم مركزه في الأوساط الرومانية وبين أعضاء مجلس الشيوخ برومة، فكلما حيل بينه وبين منبر الخطابة ذهب إلى الفلسفة ليشرح إلى بني وطنه أصول المعرفة فيتصل بهم عن طريق العقل والآراء فلا ينسونه وهو بعيد عن حظيرة السياسة، كذلك وجد في الفلسفة وسيلة لتربية ابنه، وسائر أبناء وطنه فهو يقول:(إذا كان الخطيب المصقع له الحق أن يعلم ذلك الفن الذي أثبت قدرته فيه، مرات، فللسياسي الحق أن يلقن شباب المستقبل بعضاً من المبادئ والدروس البالغة)(إقراء لكليرك (مؤلفات شيشرون الجزء الثاني عشر صفحة ٣)). ويذكر العلامة بيشون في كتابه (تاريخ الأدب اللاتيني) أن شيشرون اتخذ من الفلسفة وسيلة لتفهم القانون الروماني الذي ساد في زمانه واستيحاء هذا القانون خلال تلك المبادئ العقلية في خلق فلسفة سياسية نجدها في جمهوريته ونواميسه. والفلسفة بعد ذلك كانت وسيلة للعزاء في آخر حياة شيشرون لأنه فقد زوجته بعد حياة ثلاث وثلاثين سنة واضطر إلى الزواج من أخرى صغيرة السن لم تستقم سيرتها مع ابنته التي ماتت بعد ذلك في شبابها المبكر؛ فلزم الحزن وسطر كتابه (التأسي)(اقرأ القسيس العلامة برتران في كتابه (منتخبات من مؤلفات شيشيرون في الفلسفة)) وعليه فالفلسفة عند شيشرون لاحقة