الذي ينتهي أثره عند قراءته فقد تكون له قيمته، وقد يكون له غناؤه، ولكنه أدب موقوت يموت حين ينتهي العصر الذي نشأ فيه. ولو أنك نظرت في آداب القدماء والمحدثين، لرأيت منها طائفة لا يمكن أن توصف بأنها آداب عصر من العصور أو بيئة من البيئات، أو جيل من الأجيال، وإنما هي آداب العصور كلها والبيئات كلها والأجيال كلها. لا لأنها تعجب الناس على اختلاف العصور والبيئات والأجيال فحسب، بل لأنها مع ذلك تلهم الناس وتوحي إليهم، وتجعل منهم الشعراء والكتاب والمتصرفين في ألوان الفن على اختلافها.
وليس خلود الإلياذة يأتيها من أنها تقرأ فتحدث اللذة، وتثير الإعجاب في كل وقت، وفي كل قطر، بل هو يأتيها من هذا ومن أنها قد ألهمت، وما زالت تلهم الكتاب والشعراء، وتوحي إليهم بأروع ما أنشأ الناس من آيات البيان. ولقد كان ايسكولوس أبو التراجيديا اليونانية يقول: أنه إنما يلتقط ما يسقط من مائدة هوميروس، وما زال القصاص، وشعراء التمثيل والغناء في الغرب خليقين أن يقولوا الآن ما كان يقوله ايسكولوس منذ خمسة وعشرين قرنا، ولم تكن قصص ايسكولوس وغيره من شعراء التمثيل اليوناني أقل خصبا من الإلياذة، بل هي قد ألهمت من الكتاب والشعراء قديما وحديثا، وما زالت قادرة على أن تلهمهم إلى اليوم والى غد. وإني لأذكر أني قرأت منذ أعوام قصة تمثيلية هي الثامنة والثلاثون من نوعها وقد سماها صاحبها (جيرود) وبهذا الرقم. فوضع لها هذا العنوان (أنفيتمريون رقم ٣٨) كانت أسطورة تتصل بمولد هيرقل، فصورها سوفوكل قصة تمثيلية في القرن الخامس قبل المسيح. وما زال الشعراء والكتاب من اليونان والرومان والأوربيين المدنيين يتأثرونه ويذهبون مذهبه في تصوير هذا الموضوع حتى انتهت القصص التي كتبت فيه شعرا ونثرا إلى هذا العدد الضخم، ولم يحجم فحول التمثيل عن طرق هذا الموضوع لأنهم سبقوا إليه، بل زادهم ذلك حرصا عليه، ورغبة فيه، وكان بين الذين طرقوه الشاعر اللاتيني بلوت، والشاعر الفرنسي موليير. ثم لم يشفق جيرودو من أن يطرق موضوعا سبقه إليه الفحول من شعراء التمثيل في العصور القديمة والحديثة. فصور قصته هذه الثامنة والثلاثين وعرضها على النظارة في باريس سنة ١٩٢٩، فكان فوزها عظيما وإعجاب النظارة والقراء بها لا حد له.