وفي أدبنا العربي على قوته الخاصة، وما يكفل للناس من لذة ومتاع، قدرة على الوحي، وقدرة على الإيهام. فأحاديث العرب الجاهلين وأخبارهم لم تكتب مرة واحدة، ولم تحفظ في صورة بعينها، وإنما قصها الرواة في ألوان من القصص، وكتبها المؤلفون في صنوف من التأليف، وقل مثل ذلك في السيرة نفسها، فقد ألهمت الكتاب والشعراء في أكثر العصور الإسلامية وفي أكثر البلاد الإسلامية أيضا. فصوروها صورا مختلفة تتفاوت حظوظها من القوة والضعف والجمال الفني، وقل مثل هذا في الغزوات والفتوح. وقل مثل هذا في الفتن والمحن التي أصابت العرب في عصورهم المختلفة. ولم يقف إلهام هذا التراث الأدبي العظيم عند الكتاب والشعراء الذين ينمقون النثر ويقرضون الشعر في اللغة العربية الفصحى، بل تجاوزهم إلى جماعة من القصاص الشعبيين الذين تحدثوا إلى الناس في صور مختلفة وأشكال متباينة بما كان لآبائهم من مجد مؤثل، وبما أصاب آباءهم من محن مظلمة، وفتن مدلهمة، عرفوا كيف يثبتون لها ويصبرون عليها، ويخرجون منها كراما ظافرين، ولا خير في حياة القدماء إذا لم تلهم المحدثين ولم توح إليهم بروائع البيان شعرا ونثرا، وليس القدماء خالدين حقا إذا لم يكن التماسهم إلا عند أنفسهم، ولا تعرف أنباؤهم إلا فيما تركوا من الدواوين والأسفار، إنما يحياالقدماء حقا، ويخلدون حقا، إذا امتلأت بصورهم وأعمالهم قلوب الأجيال مهما يبعد بها الزمن. وكانوا حديثا للناس إذا لقي بعضهم بعضا، وكنوزا يستثمرها الكتاب والشعراء لأحياء ما يعالجون من ألوان الشعر وفنون الكلام.
إلى هذا النحو من إحياء الأدب القديم، ومن إحياء ذكر العرب الأولين قصدت حين أمليت فصول هذا الكتاب. ولست أريد أن اخدع القراء عن نفسي ولا عن هذا الكتاب، فإني لم أفكر فيه تفكيرا، ولا قدرته تقديرا، ولا تعمدت تأليفه وتصنيفه كما يتعمد المؤلفون، إنما دفعت إلى ذلك دفعا، وأكرهت عليه إكراها، ورأيتني أقرأ السيرة فتمتلئ بها نفسي، ويفيض بها قلبي، وينطلق بها لساني، وإذا أنا أملي هذه الفصول وفصولا أخرى أرجو أن تنشر بعد حين.
فليس في هذا الكتاب أذن تكلف ولا تصنع ولا محاولة للإجادة ولا اجتناب للتقصير، وإنما هو صورة يسيرة طبيعية صادقة لبعض ما أجد من الشعور حين أقرأ هذه الكتب التي لا أعدل بها كتبا أخرى مهما تكن، والتي لا أملّ قراءتها، وآنس إليها، والتي لا ينقضي حبي