الحدود، وأقل من الغفلة التي تمنع من يقول هذا القول من أن يعرف أن أكثر الحقوق والواجبات اللازمة لرقي الإنسانية معروف، وإنما هو القصور عن عليائها الذي يمنع من الرقي في أكثر الأحوال
ولا ننكر أن بعض عصور الانقلاب الاجتماعي التي جرت في أذيالها شيئاً مما دعا إلى طمس بعض حدود الحق والواجب القديمة قد أدى إلى تعديل وتحوير وتحسين في حالة الإنسانية، ولكن المصلحين المثقفين كانوا يختلفون عن الدهماء وأمثال الدهماء، فإن المثقفين كانوا يعتبرون هذا الطمس ضرراً عارضاً مؤقتاً لابد من منع شره من أن يستطير، وأنه ليس سبب الرقي ولا أساسه، وأنه ينبغي قصره على الحد الذي يمكن الدهماء إذا كانوا لا يمكنون إلا معه من الرغبة في الحقوق والواجبات الجديدة. أما أمثال هؤلاء الدهماء وأنصاف المثقفين وذوو الأثرة والجشع والمكر والخبث ممن ينعق في أثر كل مصلح فيحاولون طمس جميع حدود الحق والواجب كي ينتفعوا ولا يبالون ما يكون بعد انتفاعهم
وبالرغم من سنة التوازن التي تؤدي إلى زيادة تشبث بعض الطوائف الإنسانية إذا نقص تشبث غيرها بحدود الحق والواجب قد يتدهور المجتمع الإنساني بسبب قوة عوامل الخراب التي تطغى وتشل أثر هذه السنة حتى ولو كان التغير المطلوب مما يرجى فيه خير الإنسانية، وبعض التغير لا رجاء فيه فتكون المصيبة أكبر والخسارة مضاعفة
ومن المستطاع التمييز بين وهْيِ حدود الحق والواجب الناشئ من التغير المؤدي إلى رقيّ، وبين وهيها الناشئ من تغير لا يؤدي إلى رقي - وإن اختلطا في أذهان الناس ونفوسهم - فالوهي الأول لا يكون شاملاً لجميع الطوائف والطبقات والأفراد، بل نرى من الطوائف من لا يتأثر به ولاسيما طائفة المحافظين على القديم. أما الوهي الثاني الذي يؤدي إلى تدهور فيكون شاملاً، ومن دلالاته أن الطائفة المحافظة على القديم قد تكون من أكثر الطوائف تأثراً به بالرغم مما يتفاخر أفرادها من المحافظة على حدود الحق والواجب. والنوع الأول مقصور على بعض حدود الحق والواجب غير شامل لها، وإنما يقصر على ما يراد تعديله وإنماؤه من الحق والواجب. أما النوع الثاني فإنه يظهر بمظهر شامل لجميع حدود الحق والواجب أو أكثرها؛ والنوع الأول نرى من خلفه حقوقاً وواجبات أخرى يتقيد