ولقد قرأت هذه السيرة مرات الله أعلم بعددها، في كتب لا أكاد أحصيها، ثم عدت اليوم أقرؤها لأجد في ثنى من ثناياها قصة مطوية أو حادثة مختبئة، أبني عليها فصلاً أكتبه للعدد الممتاز، وفي ظني أني لن أسير في قراءتها إلا قليلا حتى أملها وأعزف عنها لأني لا أجد فيها - وقد قرأتها حتى حفظتها - خبراً جديداً. . . وأقسم أني لم أسر فيها غير بعيد حتى أحسست بلذة فنية تمتلك عليّ أمري، وتستأثر بنفسي، كاللذة التي أمسها عندما أقرأ الأثر الأدبي البارع لأول مرة، وتغلبني حتى تضطرني أحياناً إلى قطع القراءة لأمسك بقلبي الواجب، أو أمسح عيني المستعبرة، أو أصغي إلى صوت الحق في ضميري، ومنادي الفضيلة في قلبي؛ ثم أسير فيها، فأنتقل من اللذة الفنية، والشعور بالجمال، إلى شيء أعلى من الفن وأسمى من الجمال: أحس بحلاوة الإيمان؛ وإن للإيمان لحلاوة عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها، فمن عرف درى ما أقول، ومن جهل لم ير إلا حروفاً فارغة من المعنى. . . وإذا جاء الإيمان جاءت معه البطولة بأروع أشكالها، والتضحية بأعجب أنواعها، وجاء معه الصبر والإيثار والقوة والشعور، وكل فضيلة من فضائل البشر. . . وكذلك كانت حياة أصحاب هذه السيرة!
كانت حياةً أسمى وأجمل من كل حياة عرفتها أو قرأت عنها أو تخيلتها: معرفة للغاية التي خلق الله الناس من أجلها، وجهاد في سبيل هذه الغاية، وجرى على هذا الجهاد، وترفع عن خدع الحياة وألاعيبها، واتصال بالله يكاد والله يرفعهم من رتبة الإنسانية إلى رتبة الملائكة ويخرج بهم من ثوب الجسم الماديّ، حتى يكونوا روحاً خالصاً. . .
عرفوا ما هي الغاية من الحياة وفهموها، على حين جهل الناس هذه الغاية فهم يسألون أبداً: لماذا نعيش؟ أو خدعوا عنها بغايات دنيئة قريبة. . . أما هؤلاء الغربيون فحسبوا الغاية من الحياة هي الحياة. جعلوا السبب هو المسبّب، والوسيلة هي الغاية، فعمدوا إلى تَرْفيهِ الحياة، واستخدموا لأجل ذلك ما قدروا عليه، فصارت حضارتهم آلية جامدة، وصاروا لطول ما اشتغلوا بالحديد والنحاس يفكرون بعقول من حديد ونحاس، وانقطعت صلتهم بالروح وانبتّوا مما وراء المادة. . . وأما هؤلاء المشرقيون، من الهنود وأمثالهم، فساروا على الضد، وأهملوا الجسم وعاشوا للروح، فظنوا بأن غاية الحياة الفناء في المطمح الروحي،