فقتلوا أجسامهم، وأعرضوا عن دنياهم، وأغرقوا أعمارهم في تأمل لا أول له ولا آخر، ولا جدا منه ولا منفعة. . أما الفلاسفة فكان منهم الماديون الذين بلغ من رقاعتهم أن أنكروا الروح إنكاراً وجحدوا الله، وقال متكلمهم:(إن الدماغ يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء. . .) فجعل الفكر مادة سائلة. . . ومنهم الروحيون الذين كانوا أصحّ نظراً، وأدنى إلى الحق، ولكنهم لم يصلوا إليه. . . تساءلوا منذ بدؤوا يفكرون: لماذا نعيش؟ ولا يزالون مختلفين يتساءلون هذا السؤال الذي عرف المسلمون وحدهم جوابه، حين قرءوا قول الله الذي أنزله على عبده ورسوله:(وما خَلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدون)
استدلّ المسلمون بالمخلوق على الخالق، وأرشدهم الله إلى عظمة هذا الكون (المكوَّن) فعرفوا منها ما لم يعرفه أصحاب الفلك من العلماء الماديين، غاية ما يعرف هؤلاء أن بيننا وبين الشمس كذا، وأنها أكبر من أرضنا هذه بكذا، ثم إن من هذه الكواكب كواكب لو ألقيت الشمس فيها لكانت رملة في صحرائها، أو نقطة من مائها، وما بين مشرق كوكب منها ومغربه أضعاف أضعاف ما بين الشمس والأرض، وغاب عنهم ما بعدُ من الكواكب، ووقفت دون رؤيته نظاراتهم ومكبراتهم، وعجزت عن الإحاطة به عقولهم وتصوراتهم، فسموه (فضاء غير متناهٍ)، كما يظنّ الطفل أن البحر لا ينتهي وليس له آخر. . . وهل شيء ليس له آخر، إلا مَنْ هو الأول والآخر؟ أما المسلمون فعرفوا أن وراء هذا الفضاء مخلوقاً عظيماً، يحيط به (كالسقف المرفوع) لا تقاس به هذه الكواكب إلا قياس (المصابيح) إلى السقف، تهون عنده هذه الكواكب العظيمة وتضؤل، لأن له من الكبر والجلال ما لا نجد في لغتنا هذه التي وضعت لهذه الأرض الحقيرة كلمة تدل عليه؛ هذا المخلوق هو السماء الدنيا، ومن فوقها ست سموات أخرى طباقٌ بعضها فوق بعض، ومن فوقها أشياء أجل وأكبر، لا تكاد هذه السموات تعدّ إذا قيست بها شيئاً، هي العرش والكرسي، وهناك الجنة، عرضها السموات كلها والأرض. . . هذه هي المخلوقات، التي كانت بكافٍ ونون، فما ظنك بالمكوِّن الباقي؟ ومن عرف هذا الجلال للمخلوق، كيف يكون إجلاله للخالق؟ وهل يجد لحياته غاية إلا الاتصال به وعبادته؟ وهل يقف به عقله وهمته في هذه الأرض؟. . . أي شيء هي الأرض في هذا الكون؟ ما هي في جنب الله؟
فهموا عقيدة القضاء والقدر أصحّ فهم وأجوده - وعقيدة القدر محنة العقل البشري، تزل