(أعطوني بقعة أرض في جرمانيا، يستطيع فيها العندليب أن يغرد دون أن يرمى بسهم فرنسي. . .
(أعطوني كوخاً حقيراً يستطيع أن يصيح ديكي فوق حاجزه، دون أن يقع فريسة في يد فرنسي. . . وأنا أصيح عندئذ مثل الديك وأغرد مثل العندليب بكل فرح وسرور،. . . ولو أفقد كل ما ملكته يداي، فلم يبق لي شيء يستر جسمي غير قميص بال. . .)
تصوروا أيها السادة أن هذا الشاعر الذي أظهر مثل هذا الشعور الوطني الرقيق بهذا الشكل الطريف، في هذا الشعر الحماسي، وفي مئات من أمثاله. . . هذا الشاعر أيضاً كان بعيداً عن فكرة الوطن والوطنية - بتأثير النزعة العالمية السائدة حوله إذ ذاك -
حتى حروب نابليون. . . إنه اعترف بذلك هو نفسه، فقال:(إنني عرفت وطني في ثورة الغضب، وأحببته في ساعة النكبة، وآمنت بأنه لا بشرية بلا أمم، ولا أمة بلا وطن حر. . .)
أعتقد أن هذين المثالين يكفيان لإظهار التطور العميق الذي حدث في الآراء والنزعات في البلاد الألمانية عقب استيلاء الفرنسيين عليها، في العقد الأول من القرن التاسع عشر. .
نستطيع أن نقول إن الفكرة العالمية فقدت قوتها ونفوذها في ألمانيا تماماً، وتركت محلها لروح وطنية متأججة، استمر اضطرامها طول القرن التاسع عشر. .
مع هذا لم تندثر تماماً في سائر البلاد، بل بعكس ذلك - وجدت في بعضها تربة صالحة لنموها - تحت شكل جديد، هي فكرة (السلم الدائم العام. . .)
فقد تألفت عدة جمعيات تدعو إلى السلم والتآخي، منذ سنة ١٨١٤، وأخذت تسعى لنشر مبادئها بين المفكرين والناس بصور ووسائل شتى: إنها أخذت تدعو إلى توحيد الأوطان؛ حتى أنها لم تتردد في بعض الأحيان في توجيه حملات عنيفة على الوطنية في سبيل هذه الدعوة. . إن فكرة السلم والتآخي وجدت بهذه الصورة عدداً غير قليل من الأنصار والمريدين، بين الأدباء والمفكرين ورجال الدين. . وصار هؤلاء يعقدون سلسلة مؤتمرات أممية. . بقصد نشر فكرة السلم والتآخي بين الأمم. .
غير أننا إذا تتبعنا سير انتشار هذه الفكرة، نجد أن هذا الانتشار لم يجر باطراد، على وتيرة واحدة - فإن الفكرة كانت تنتشر انتشاراً لا بأس به مدة من الزمن ثم تتقلص وهلة،